للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعث المأمون في طلب عشرة من زنادقة البصرة، فجمعوا فرآهم طفيليّ، فمضى معهم، فأدخلوا في سفينة، فدخل معهم، وجيء بالقيود، فقيّد معهم، فقال أحدهم: يا طفيليّ إليّ هنا، فأقبل عليهم فقال: فديتكم، أيّ شيء أنتم؟ فقالوا له: بل أنت، من أنت؟ وهل أنت من أصحابنا؟ قال: والله ما أعرفكم، غير أني طفيليّ، خرجت من منزلي، فرأيت منظرا جميلا، ونعمة ظاهرة، فقلت: شيوخ وكهول وشبّان، ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فدخلت وسطكم كأني أحدكم إلى هذا الزورق، فرأيته قد فرش ومهّد، ورأيت سفرا (١) مملوءة فقلت: نزهة إلى بعض البساتين والقصور، إن هذا اليوم يوم مبارك، فزدت ابتهاجا، فجاء هذا الموكّل بكم فقيّدكم، فطار عقلي فما الخبر؟ فضحكوا وفرحوا به، وقالوا له: قد حصلت في الإحصاء، نحن مانيّة على مذهب ماني، القائل بالنور والظلمة، نسير إلى المأمون، فيسألنا عن مذهبنا، ويدعونا إلى التوبة. ويظهر لنا صورة ماني، ويأمرنا أن نتفل عليها، ونبرأ منها، فمن فعل نجا، وإلا قتل، فإذا دعيت فأخبره باعتقادك، وللطفيليّ مداخلات وأخبار فاقطع سفرنا بها. فكان ذلك. فلما دخلوا على المأمون، دعاهم بأسمائهم وامتحنهم فأمرّ عليهم بالسيف، وتأخّر الطفيليّ وقد استوعب العدّة، فسأل الموكّلين بهم، فقالوا: وجدناه معهم، فجئنا به، فقال له: ما خبرك؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كنت أعرف من أقوالهم شيئا، إنما أنا رجل طفيليّ، ثم قصّ قصته معهم.

فضحك المأمون كثيرا، ثم أظهر الصورة، فلعنها وبرئ منها، ثم قال: اعطوها لي حتى أسلح عليها، والله ما أدري ما ماني! أنصرانيّ أم يهوديّ أم مسلم؟ فقال المأمون:

يؤدّب على فرط جهله وتطفيله ومخاطرته بنفسه، فقال: يا أمير المؤمنين بحياتك، إن كنت ولا بدّ عازما، فاجعل السّياط كلّها على بطني، فهو الذي حملني على هذا الغرر.

فعاد إلى الضحك، فاستوهبه منه إبراهيم بن المهدي بحديث في تطفيله يذكر في خبر إسحاق الموصلي، فوهبه له، وأجاز الطفيليّ بجائزة سنيّة.

كان إبراهيم بن المدبّر عاملا على البصرة، وكان له سبعة ندماء لا يأنس بغيرهم، وكلّ واحد منهم منفرد بعلم من العلوم. وكان طفيلي يعرف بابن درّاج، من أكمل الناس أدبا، وأخفّهم روحا وأشدّهم في كلّ مليحة افتنانا. فاحتال ودخل في جملة الندماء، فخرج إبراهيم، فرآه فقال لحاجبه: قل لهذا الرجل، ألك حاجة؟ فسقط في يد الحاجب، وعلم أنّ الحيلة تمّت عليه، وأنه لا يرضي ابن المدبّر من عقوبته إلا بقتله، فمرّ يجر رجليه، فقال له: يقول لك الأستاذ: ألك حاجة؟ فقال: قل له: لا، فأدخله عليه، فقال:

فأيّ شيء أدخلك! أأنت طفيليّ؟ فقال: نعم أصلحك الله! فقال: إن الطفيليّ يحتمل على دخوله على الناس بخصال، منها أن يكون لاعبا للشّطرنج أو بالنّرد، أو ضاربا بالعود، أو


(١) السفرة: طعام المسافر.

<<  <  ج: ص:  >  >>