فلمّا عثر على افتضاحنا، ونضوب ضحضاحنا، قال: يا قوم إنّ من العناء العظيم، استيلاد العقيم، والاستشفاء بالسّقيم، وفوق كلّ ذي علم عليم. ثمّ أقبل عليّ، وقال: سأنوب منابك، وأكفيك ما نابك؛ فإن شئت أن تنثر، ولا تعثر، فقل مخاطبا لمن ذمّ البخل، وأكثر العذل: لذ بكلّ مؤمّل، إذا لم وملك بذل وإن أحببت أنّ تنظم، فقل للّذي تعظم: [مجزوء الرجز]
أس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا
أسند أخا نباهة ... ابن إخاء دنّسا
اسل جناب غاشم ... مشاغب إن جلسا
اسر إذا هبّ مرا ... وارم به إذا رسا
اسكن تقوّ فعسى ... يسعف وقت نكسا
***
عثر: اطّلع. افتضاحنا: اشتهارنا بالعجز. نضوب ضحضاحنا: جفوف مائنا القليل.
الاستيلاد: طلب الولد، يقول: إنّ من تعب النفس طلب فائدة من ذهن كليل وقريحة جامدة. نابك: نزل بك. تنثر: تقول نثرا. لذ: استتر به والجأ إليه. مؤمّل: مرجوّ لفعل الخير. لم: جمع المال. بذل: تكرّم على غيره، وهذا اللفظ من المعكوس في النثر بديع، فما ظنك بهذا النظم الرفيع الذي أردفه عليه، فإنه من أشرف حسناته، رحمه الله! .
قوله: «أس» أعط، والأوس: العطيّة. أرملا: فقيرا أفنى زاده. عرا: قصد. ارع:
احفظ الصحبة. أسا: أتى بسوء، وأصله الهمز أساء فسهّل الهمزة، يقول: إن قصدك فقير فصله، وإن أخطأ عليك صاحب فلا تقطعه، وارع حقّ الصحبة، ويقال: المرء بالهمز، والمر بلا همز، وبترك الهمز يستقيم الانعكاس في بيت الحريري، ويقال: المرة، قال دعبل: [البسيط]
واحفظ عشيرتك الأدنين إنّ لهم ... حقّا يفرّق بين الزّوج والمرة (١)
وهذا البيت الذي فسرناه وما بعده من الأبيات تقرؤه إن شئت من أوّله، وإن شئت من آخره. وجعل هذا النّمط في عكس الحروف توطئة لما يذكر في المقامة بعد هذا في الرسالة القهقرية، من عكس ألفاظها، من أوّلها إلى آخرها إلا أنّ ذلك العكس بالألفاظ وهذا بالحروف، وكلاهما غاية في بابه، وإنما يذكر الأدباء هذا استملاحا في كلامهم، وامتحانا لخواطرهم.
***
(١) البيت في ديوانه دعبل الخزاعي ص ٤٧.