للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن رشيق: ومن أملح ما سمعه الناس في تفضيل البادية على الحاضرة من حلاوة وطلاوة وصحّة معنى، وقرب مأخذ، مأخوذ من قول أبي الطيب: [البسيط]

من الجآذر في زيّ الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب (١)

ثم قال: [البسيط]

ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويّات الرّعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب

أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ولا برزن من الحمّام مائلة ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب

ومن هوي كلّ من ليست مخضّبة ... تركت لون مشيبي غير مخضوب

فلو لم تفضل البادية إلا بهذا، لكان فيه مقنع.

***

فلمّا أجبنا مناديه، وحللنا ناديه، أحضر من أطعمة اليد واليدين، ما حلا في الفم وحلي في العين. ثمّ قدّم جاما، كأنّما جمد من الهواء، أو جمع من الهباء، أو صيغ من نور الفضاء، أو قشر من الدّرّة البيضاء، وقد أودع لفائف النّعيم، وضمّخ بالطّيب العميم، وسيق إليه شرب من تسنيم، وسفر عن مرأى وسيم، وأرج نسيم.

فلمّا اضطرمت بمحضره الشّهوات، وقرمت إلى مخبره اللهوات، وشارف أن تشنّ على سربه الغارات، وينادى عند نهبه: يا للثّارات! نشز أبو زيد كالمجنون، وتباعد عنه تباعد الضّبّ من النّون، فراودناه على أن يعود، وألّا يكون كقدار في ثمود.

***

قوله: «ناديه» أي مجلسه. وطعام اليد: الثريد ونحوه. وطعام اليدين: الدجاج الصحاح والشواء ونحو ذلك، وكانت وليمة في الأنصار، فحضرها حسان بن ثابت، وقد كفّ بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فلما وضع الطعام، جيء بالثريد، قال حسان لابنه:

يا بني، أطعام يد أم طعام يدين؟ قال: بل طعام يد. فأكل، ثم جيء بالشواء، فقال مثل ذلك، فقال: بل طعام يدين فأمسك.

حلا: طاب، حلي: حسن، وحلا في الفم، من الحلاوة، وحلي في العين من الحلي المتزيّن به.


(١) الأبيات في ديوان المتنبي ١/ ١٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>