للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كالحامل، وانشقّت عن الناقة. ثم تلاها سقبها (١)، فآمن كثير منهم، وكان شربها (٢) يوما وشربهم يوما، فإذا كان يوم شربها حلبوها، فملئوا منلبنها كلّ إناء ووعاء، فلما امتنعت إبلهم من الماء يوم شربها استثقلوها، وكان فيهم امرأتان: عنيزة وصدقة، فبذلتا أنفسهما لقدار على أن يعقر الناقة، وهو قدار بن قديرة، وهي أمّه وسالف أبوه، وكان قدار أزرق اسمر قصيرا، وكان له صديق اسمه مصدّع بن مهرج، معاون له على ما كان به من الفساد في الأرض، وكانا في تسعة من أهل الفساد، فضرب قدار عرقوبها بسيفه، وضرب مصدّع العرقوب الآخر، واستهموا لحمها، فخرجت ثمود تعتذر إلى صالح، وتزعم أنها لا ذنب لها. فقال: انظروا، هل تدركون فصيلها، فعسى أن يرفع عنكم العذاب! فالتمسوه، فصعد إلى جبل يقال له: القارة، وطال الجبل به في السماء، حتى ما تناله الطير، وبكى.

ثم استقبلهم، ورغا ثلاثا، فقال صالح: تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، وآية ذلك أن تصبح وجوهكم في الأول مصفرّة، وفي الثاني محمرّة، وفي الثالث مسودّة. فلما رأوا صدقه أوّل يوم أرادوا قتله، فمنع منهم فلمّا رأوا صدقه في اليوم الثالث تحنّطوا وتكفنوا وبكوا وضجّوا، وجعلوا ينظرون من أين يأتيهم العذاب. فصبّحتهم في اليوم الرابع صيحة من السماء، قطعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، فعقروها يوم الأربعاء، وأصيبوا يوم الأحد، وإنما أصيبوا والمذنب بعضهم، لأنهم رضوا فعله، والنّية أبلغ من العمل- وبلادهم بين الشأم والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي ومرّ النبي صلّى الله عليه وسلم بقربتهم، ونهى الناس عن دخولها، وأراهم مرتقى الفصيل.

ولما رأى صالح أنها دار سخط، ارتحل بمن معه إلى مكة، فلم يزالوا بها حتى ماتوا، فقبورهم في غربيّ البيت، بين دار الندوة والحجر.

وقال حباب بن عمرو: [البسيط]

كانت ثمود ذوي عزّ ومكرمة ... ما إن يضام لهم في النّاس من جار

فأهلكوا ناقة كانت لربّهم ... قد أنذروها فكانوا غير أبرار

***

فقال: والّذي ينشر الأموات من الرّجام، لا عدت دون رفع الجام، فلم نجد بدّا من تألّفه، وإبراز حلفه، فأشلناه والعقول معه شائلة، والدّموع سائلة، فلمّا فاء إلى مجثمه، وخلص من مأثمه، سألناه لم قام، ولأي معنى استرفع الجام؟ فقال:

إنّ الزّجاج نمّام، وإنّي آليت منذ أعوام، ألّا يضمّني ونموما مقام.

فقلنا: وما سبب يمينك الصّرّى، وأليّتك الحرّى؟

***


(١) السقب: ولد الناقة.
(٢) الشرب: النصيب من الماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>