للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معبد، حتى غوّرت في مبنى أتخيّل الرياض، وأجيل ناظري في مساقط الغيث، حتى دفعت إلى أعرابيّ عند روضة غناء، عميم نبتها، زاهر نورها، يطيف بها، فقلت: يا أعرابيّ، أحسن عندك ما ترى؟ فقال: كلّا والله، سماء مظلّة وأرض مقلة، تضحك هذه عن بكاء هذه، فما شئت من درّة بيضاء، وياقوتة حمراء، وزمردة خضراء، قد نظمتها أيدي المزن في نحور الصعيد.

وقال يزيد بن ماهان الأوسيّ: أتيت أرض السماوة في أنف من الربيع، وقد اكتهل النبت فلما جزت ساحة الحيّ دفعت إلى جوار كأنهنّ دمي العاج، يمشين كقضيب البان، وبين أيديهنّ روضة مشرقة، وهنّ يطفن بها، ويهبن الولوج فيها. فقلت: ما لكنّ لا تلجن الروضة، فهي أوطأ لأقدامكنّ، وأقرب لإثارة أرجها من أنوفكنّ؟ فقالت إحداهن: أحرام عندك أن يطأ بعضنا خدود بعض؟ قلت: بلى والله، قالت: فوجه الأرض أحق بالتحريم أن يحصد أو يتوسّد.

وبعث الحجاج إلى عبد الملك بجاريتين، وكتب إليه: هما عندي بمنزلة روضتين من رياض السّماوة، جاد الربيع أوّله وآخره عليهما، فاعتمّ نبتهما، ونوّر زهرهما، وحسن منظرهما، وقد بعثت إلى أمير المؤمنين بهما مباركا له فيهما.

وقد ذكرت الشعراء الغيث والرياض بألفاظ مستحسنة، ومعان مستظرفة، وتمثيل رائع، وتشبيه رائق، يبعث السرور، وينفي لوعة المحزون، ويجلب أريحية الفتوة والشباب، فنذكر هنا من محاسن أشعارها ولطائف مذاهبها في ذلك ما نرجو به أن يفي بالغرض الذي قصده وضمّنه الحريريّ صدر هذه المقامة ونوافقه، ونشرح منزعها الشريف في ذلك ونحقّقه إن شاء الله تعالى.

أنشد السّيرافيّ رحمه الله تعالى يصف روضة: [البسيط]

نضّاخة تملأ العينين بهجتها ... فيحاء حفّت بأنواع الرياحين

في ظل آس وجرجير ونرجسة ... وسوسن زان وردا بين نسرين

وكرمة ذات أعناب مذلّلة ... من كلّ أقطارها تحت الأفانين

شبّهت فيها العناقيد التي بقيت ... أولاد زنجية فطس العرانين

فتارة من يواقيت منضّدة ... وكالزّبرجد في بعض الأحايين

فعينها غدق وماؤها غبق ... وريحها ريح مسك الهند والصين

فيها زرابيّ قد بثّث ملمّعة ... يضحكن عن زهر أنواع البساتين

فعارضه حسن الكوفيّ، فقال: [البسيط]

كأنّها كاعب حسناء أبرزها ... عيد فلم تأل في طيب وتزيين

تبرّجت لتروق الناس بهجتها ... فالناس ما بين مبهوت ومفتون

<<  <  ج: ص:  >  >>