عند الرشيد بعلم النحو، وهم الكسائي وأصحابه، فقصدهم ببغداد، وناظرهم بحضرة الرشيد وبحضرة يحيى بن برمك.
وناظره الكسائيّ، وقيل الفراء بحضرة الكسائي في المسألة الزنبورية المشهورة، وقد ذكرناها في الرابعة والثلاثين، وكان- فيما ذكر- الظهور لسيبويه، وتراضوا بينهم بشهادة الأعراب الحاضرين بباب الخليفة، فقدم الكوفيون بجانبهم عند الخليفة للأعراب من لغتهم أن يجيبوا بموافقة قول الكوفيين، فأجابوا بذلك، فخرج سيبويه خجلا وكاد يموت غمّا، فزعموا أنهم شفعوا للرشيد لئلا يرجع مغلوبا خائبا فأمر له بعشرة آلاف درهم، فانبعث إلى الأهواز ولم يعرّج على البصرة. فأقام هناك مدة مديدة إلى أن مات.
وحكي أنه لما انصرف عنهم مغموما لقي الأخفش سعيد بن مسعدة، فأخبره بتألبهم عليه، فدخل الأخفش، فسأل الكسائيّ عن مائة مسألة فخطّأه فيها كلّها، فقال له: أنت سعيد بن مسعدة؟ فقال: نعم، فسأله أن يؤدب أولاده فأجابه. وقرأ عليه الكسائي كتاب سيبويه، وأعطاه سبعين دينارا.
ويروى أنه لما بلغ الكسائيّ موته، قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، أدّ عني ديته، فإني أخاف أن أكون شاركت في موته.
وقيل: إنه مات من ذرب المعدة.
وقيل: إنه لما خرج عنهم سأل من يرغب من الملوك في النحو، فقيل له: طلحة ابن طاهر بخراسان، فقصده، فلما انتهى إلى ساوة مرض ومات.
ولما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه، فقطرت دمعة من دموعه على خدّه، فرفع عينيه إليه، وقال: [الطويل]
أخيّين كنا فرّق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدّهرا!
ثم قال عند موته: [المتقارب]
نؤمّل دنيا لنبقى بها ... وتأتي المنية دون الأمل
حثيثا يروّي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرّجل
وفيه أنه مات بشيراز وقبر بها سنة ثمانين. وقيل سنة أربع وتسعين ومائة قال أبو سعيد الصولي: رأيت على قبره مكتوبا لسليمان بن يزيد: [الكامل]
ذهب الأحبة بعد طول تزوار ... ونأى المزار فأسلموك وأسرعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبّة أعرضوا وتصدّعوا
***