أبياتا بديعة من قوله، كان يردّد منها هذا البيت، ويشير إلى الروضة المعظّمة المطهّرة [الكامل]
هاتيك روضته تفوح نسيما ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما
وتمادى في وعظه إلى أن أطار النفوس من خشية ورقّة، وهو يعتذر من التقصير، لهول ذلك المقام ويقول: عجبا لألكن العجم، كيف ينطق عند أفصح العرب. وتهافتت الأعاجم عليه معلنين بالتوبة، وقد طاشت ألبابهم، ودهشت عقولهم، فيلقون نواصيهم بين يديه، فيستدعي الجلمين، ويجرّها ناصية ناصية، وكلّما جزّ ناصية كساها عمامة، فتوضع عليه للحين عمامة أخرى، ثم ختم مجلسه، بأن قال: معشر الحاضرين، قد تكلّمت لكم ليلة بحرم الله، وهذه الليلة بحرم رسوله؛ ولا بد للواعظ من كدية، وأنا أسألكم حاجة وإن ضمنتوها إلي أرقت لكم ماء وجهي في ذكرها. فأعلن الناس بالاسعاف وشهيقهم قد علا، فقال: حاجتي أن تكشفوا رءوسكم، وتبسطوا أيديكم، ضارعين لهذا النبي الكريم في أن يرضى عنّي ويسترضي الله عزّ وجل لي. ثم أخذ في تعداد ذنوبه، والاعتراف بها، فأطار الناس عمائمهم، وبسطوا أيديهم للنبي صلّى الله عليه وسلم، داعين له باكين متضرّعين؛ فما رأيت ليلة أكثر دموعا، ولا أعظم خشوعا من تلك الليلة. ثم انفضّ المجلس.
قال ابن جبير رحمه الله: ثم كان في اليوم التالي لهذه اللّيلة وداعنا للروضة المكرّمة، فيا له وداعا، ذهلت له النفوس ارتياعا، حتى طارت شعاعا، وما ظنّك بموقف ينادى بالتوديع فيه سيد المرسلين، وخاتم النبيين، ورسول رب العالمين! إنه لموقف تنفطر فيه الأفئدة، وتطيش له الألباب المتّئدة، فوا أسفاه وا أسفاه! كلّ يبوح لديه بأشواقه، ولا يجد بدّا من فراقه، فما تستطيع إلى الصبر سبيلا، ولا تسمع في ذلك المقام إلّا رنّة وعويلا، وكلّ بلسان الحال ينشد:[مخلع البسيط]
محبّتي تقتضي مقامي ... وحالتي تقتضي الرّحيلا
بوّأنا الله بزيارة هذا النبيّ الكريم منزل الكرامة، وجعله شفيعا لنا يوم القيامة، وأحلّنا بفضله في جواره الكريم دار المقامة.
ثم ذكر الرّوضة المقدّسة مع المسجد العتيق الذي احتوى على الروضة، فقال:
المسجد المبارك مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستطيل، وتحفّه من جهاته الأربع بلاطات مستطيلة، ووسطه كلّه صحن مفروش بالحصى والرّمل، وفي الصحن خمس عشرة نخلة، فالجهة القبلية لها خمس بلاطات مستطيلة من غرب إلى شرق، والجنوبيّة كذلك، على الصفة المذكورة والشرقيّة لها ثلاث بلاطات، والغربيّة لها أربع بلاطات. وطول المسجد مائة خطوة وست وتسعون خطوة، وسعته مائة وست وعشرون خطوة، وعدد سواريه مائتان وتسعون، وهي أعمدة متصلة بالسّمك دون قسيّ تنعطف عليها، فكأنّها دعائم