وهذه الرواية التى ساقها البخارى عن حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للخلوة أقرب الروايات، وهى أرجحها وأصدقها، وهى تدل على أمور ثلاثة:
أولها- أن الوحى جاء إليه وهو فى غار حراء، ولم يكن معه أهله، وأنه كان يتزود، ولم تذكر أنه كان يصاحبه أهله.
وثانيها- أنه كانت تصفو نفسه وروحه.. وتخلص لله.
وثالثها- أن صفاء النفس أدى إلى صدق رؤياه.
وهنا يثار أمران:
أولهما- من أى وقت ابتدأت ملازمة الخلوة شهرا من كل عام.
ثانيهما- بأى شيء ابتدأ الوحى، ونزول الروح القدس عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، أكانت مواجهته له صلى الله تعالى عليه وسلم بالرؤيا الصادقة أم المشاهدة فى الصحو، لا فى المنام، لذلك موضع من البيان، نوجزه ولا نفصله.
أما أولهما- وهو من أى وقت ابتدأت خلوته صلى الله تعالى عليه وسلم. فإنا نقول فى ذلك أنه من المتفق عليه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نشأ وهو متجه إلى ربه لا يعبد سواه، وأنه التزم أن يكون عابدا من وقت أن بلغ سنا يدرك فيها معنى العبادة، ويعرف فيها حق الخالق على المخلوق، وقد كان يعبد الله تعالى بالتأمل فى خلقه، والتدبر فى ملكوته، واهتدى إليه، وأن يهتدى ابتداء إلى طريق عبادته، فإن ذلك فوق طاقة المعقول، ولابد فيه من المنقول، وقد أشرنا إلى أنه كان يحاول معرفة ديانة إبراهيم التى كانت بقاياها فى البلاد العربية، وخصوصا فى مكة المكرمة، حيث بيت الله الحرام الذى هو أول بيت وضع للناس، وبناه إبراهيم بمكة مباركا وهدى للعالمين فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «١» .
ورجحنا فى صدر كلامنا أن يكون قد وصل بالصفاء النفسى، وربما بالرؤيا الصادقة إلى صلاة إبراهيم، فلا عبادة من غير صلاة، فما دامت هناك عبادة لمحمد عليه الصلاة والسلام، صارت رتيبة له، فلابد أن يكون قد اهتدى لصلاة إبراهيم.