للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنه إذا كان قد سار فى طريق التأمل والعبادة، وفى وسط ذلك الديجور المظلم من عبادة الأوثان، لابد أن يختلى محمد صلى الله عليه وسلم عنهم لينصرف إلى ربه، ولكيلا يكون فى قلبه غيره، ولكى يعبده كأنه يراه، وقد وصل بقلبه المشرق إلى درجة الإحسان، فالاختلاء إذن كان أمرا لابد منه، ليكون لله واحده.

ولكن ذلك النظام الرتيب الذى التزمه، بأن يعبد الله منفردا بعبادته طول العام، ثم يختلى خلوة العابد شهرا من كل عام، هو شهر رمضان، فى أى وقت ابتدأ؟ الظاهر من عبارات الصحاح من الأخبار أن ذلك لم يكن فقط عام البعث المحمدى، بل ذلك العام اختتم بأن الحق نزل عليه، وجاءه روح القدس رسولا من عند ربه، فلابد أن يكون قبل ذلك النظام الرتيب، ونحسب أنه قبله بأعوام، لا نستطيع أن نحدس بها، وإن كان يتسابق إلى عقولنا، أنها مدة لا تقل عن خمس سنين، من وقت تمام بناء البيت الحرام، ووضعه الحجر الأسود بيده الكريمة، وإن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.

١٩٤- بقى أن ننظر فى الأمر الثانى، وهو بأى شيء ابتدأ الوحى، لقد قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها «إن الوحى ابتدأ بالرؤيا الصادقة، فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» وإن ذلك لا يدل على أن ابتداء إنباء الله تعالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان بالرؤيا الصادقة.

ولكنه يدل على أن ابتداء الإشراق الإلهى، والاتصال الربانى كان بالرؤيا الصادقة، والرؤيا الصادقة، وإن كانت جزا من الإلهام الإلهى، وليست هى الوحى الذى يقام عليه التكليف بالنسبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزا من الوحى» فليست بالنسبة للنبى عليه الصلاة والسلام هى الوحى، وإن كانت بالنسبة لإبراهيم عليه السلام كانت وحيا كاملا، وبالبناء عليها هم بأن يذبح ولده إسماعيل عليه السلام، حتى هداه رب العالمين، كما قال تعالى:

وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ «١» فكانت الرؤيا إنباء.

إن المقرر لدى المؤرخين للسيرة الطاهرة أن الوحى ابتدأ بخطاب روح القدس جبريل عليه السلام، ولكن جاء فى سيرة ابن إسحاق أن أول خطاب لجبريل لمحمد عليه الصلاة والسلام كان برؤيا صادقة فى المنام، ثم صحا يحفظها عليه الصلاة والسلام.

فقد جاء فى سيرة ابن هشام: «وجاء جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءنى وأنا نائم بنمط «٢» من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ. قال: فغتنى به،


(١) سورة الصافات: ١٠٧.
(٢) النمط وعاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>