وقد كانوا على حق، لأنهم ابتدؤا بالغدر والخيانة أو تسليط الغادرين الخائنين، وعلى فرض أنهم صادقون فيما يعاهدون عليه من أنهم لا يقاتلونهم فإنهم سيسلمونهم لأهل مكة المكرمة ليصيبوا منهم شيئا، ولا شك أن أهل مكة المكرمة سينزلون بهم أذى، القتل أقله.
ولذلك قاتل أولئك الثلاثة، وقتلوا، فاختاروا أن يقتلوا مجاهدين من أن يقتلوا مستسلمين، أما إخوانهم فلم يرتضوا ذلك الموقف الشجاع الذى كانت نهايته شهادة في غير استسلام واستخذاء، بل في قوة وإيمان وجهاد.
استسلم الباقون ظانين أن لهم عهودا، وقد ذكر منهم ابن إسحاق ثلاثة وهم: زيد بن الدثنة، وخبيب بن عدى، وعبد الله بن طارق.
ولنذكر بعض ما فعلوه بعاصم بن ثابت الذى أصاب من قريش في ميدان القتال، فقد أصاب فى أحد ابنى امرأة من قريش فنذرت إن تمكنت منه أن تشرب الخمر في قحفة عاصم، فلما قتل طلبت رأسه، وقد قيل، عند ما أرادت ذلك، نبه رجل أبا سفيان بن حرب كيف يصنع برأس ابن عمه فلم يستخف ولم يلم، وماذا ينتظر من أبى سفيان زوج هند التى فعلت ما فعلت، فلم ينكر، ولكن الله تعالى حمى رأس المؤمن التقى من أن يمسها الأنجاس فحامت حولها الزنابير لتحميها.
ولنتجه من بعد إلى الذين رضوا بمواثيق المشركين، ولم يتنبهوا إلى قول الله تعالى: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً.
لقد أسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة المكرمة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران، وهو واد قرب مكة المكرمة، استطاع أن يفك أحد الثلاثة عبد الله بن طارق يده من رباطها، وأخذ سيفه، فاستأخر عنه القوم، وباعدوه حينا من لقاء سيفه، ولكن رموه بالحجارة حتى قتلوه، فمات غير مستسلم، وإن كان قد وثق بعهدهم الذى عاهدوا عليه.
وأما الآخران خبيب بن عدى، وزيد بن الدثنة فقد باعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة المكرمة.
فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عمار بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل أباهم الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا، يسومونه الخسف والهوان، ولكنه كان في سعة نفس من إيمانه، ومهما يروموه من إهانة، فنفس المؤمن لا تهون، وكأنه وثق بعهدهم ليرى الله تعالى الناس المؤمن إذا خدع، وصبره إذا أوذى ليرتفع إلى درجات المجاهدين بالصبر، كما هو مجاهد في ميدان القتال،