وقول عمر: اللهم اجعل موتى فى بلد رسولك (صلى الله عليه وسلم) . احتج به من فضل المدينة على مكة، وقالوا: لو علم عمر بلدة أفضل من المدينة لدعا ربه أن يجعل موته وقبره فيها، وكان مما استُدل به على فضلها أن الله لما اختارها لقبر نبيه أفضل البشر عُلم أنه لم يختر له إلا أفضل البقاع، وقد جاء أن ابن آدم إنما يدفن فى التربة التى خلق منها، وقد ذكرنا ذلك. وقال بعض العلماء: وأما حديث عائشة حين وُعك أبو بكر وبلال وإنشادهما فى ذلك؛ فإن الله تعالى لما ابتلى نبيه بالهجرة وفراق الوطن ابتلى أصحابه بما يكرهون من الأمراض التى تؤلمهم، فتكلم كل إنسان منهم حسب يقينه وعلمه بعواقب الأمور فتعزى أبو بكر عند أخذ الحمى له بما ينزل به الموت فى صباحه ومسائه، ورأى أن ذلك شامل للخلق، فلذلك قال: كل امرىِِء مصبح فى أهله. يعنى: تصبحه الآفات وتمسيه، وأما بلال فإنما تمنى الرجوع إلى مكة وطنه الذى اعتاده ودامت فيه صحته، فبان فضل أبى بكر وعلمه بسرعة فناء الدنيا حتى الموت بشراك نعله. فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما نزل بأصحابه من الحُمَّى والوباء خشى كراهية البلد، لما فى النفوس من استثقال ما تكرهه، فدعا الله فى رفع الوباء عنهم، وأن يحبب إليهم المدينة كحبهم مكة وأشد؛ فدل ذلك أن أسباب التحبيب والتكريه بيد الله، وهبة منه يهبها لمن شاء، وفى هذا حجة واضحة على من كذب بالقدر؛ إِذِ الذى يملك النفوس فيجب إليها ما أحب، ويكره إليها ما كره هو الله، فأجاب دعوة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، فأحبوها حبا أدامه فى نفوسهم حتى ماتوا عليه.