إلى مصر. . . وكأنها لهم أرض الميعاد. فهم إليها يحُجُّون وبها يعتمرون , وفيها يعمّرون ويعمرُون. وها هي جاليتُهم قد استوطنت وادي النيل , لما تلقاه من الحفاوة التي امتاز بها المصري الكريم , منذ الزمان القديم. وكيف لا نقابلهم بهذا الارتياح , وقد جمعتنا بهم تلك العلائق , ونحن مجبولون على إكرام كل وافد من الخلائق , ولو كان بعيد الديار , وربما كان ممن يٌنكر المعروف ويغمط الفضل ويقابل الإحسان بالكفران؟ لا جَرَمَ أن في فيضان القلوب , وفي فيضان الجيوب. لذلك اشتهر بنو مصر الخصيبة بالإسراع في مدّ يد المعونة إلى كل منكوب , ولو كان ممن لا رابطة له بهم. فإنهم مشغوفون بالإحسان - لمجرد الإحسان - إلى الإنسان , مهما كان. فهذا لسان الحال لا ينطق عن الهوى , وهو شاهدُ عدلٍ على أن مصر تتألّم لكلّ من يصيبه الأذى أو يحلُّ به الردى. فإذا ما فوجئَ
الإنسان - كائناً ما كان - بقارعة من قوارع الدهر , سارع أهل مصر إلى بذل المعونة بقلوب رحيبة رحيمة , وأيْدٍ مبسوطة كريمة. وكلما دعا الداعي لعملٍ من أعمال البِرّ , كان لصوته في هذا الوادي أقوى صدى , وتسابقت عشائرنا لتلبية النداء بالندَى ولا أذهبُ بكم بعيداً في إثبات هذه القضية البديهية. غير أنني لا أجد مندوحةً عن ذكر مثالين , قريبٌ عهدها , وقد جئنا في هذه الليلة لنعزّزهما بثالث , ومعاذ الله أن يكون هو الأخير! أن أعتقد اعتقاداً جازماً أن الكثيرين من السادة السامعين وأكثر منهم ممن ليسوا في زمرة الحاضرين , قد تسابقوا منذ عامين لإغاثة المنكوبين في باريس , عندما طغَى نهر السَّيْن فجعل ذلك الفردوس الأرضي كبحيرة تتلاطم فيها الأمواج. وما ذلك إلاَّ لأن المصريين قد علَّمهم طغيان النيل في بعض الأحايين بما يتبعهُ من الكوارث والنكبات.