ويثملون بارتشاف سلاَف الحِكم التي تزري بالدرر الغوال. وكل ما كان يرويهِ عليهم كانوا يقضون منهُ
العجب العجَاب , ويطيبون لهُ نفساً , ويودّون أن يسمعوه مدى الأحقاب على أن سماعهم إياه إلى المساء ليس بقليل؛ فهو عندهم بمنزلة أعوامٍ , بل قرون. إذ الغروب عندهم من قَبيل عصر من أعظم عصور الخلق إذا بلغوه. ولنفرض الآن , إن هذه الدويبة الذكر - لقمان ذاك الأوان على نهر هيبانيس - أزمع على الرحيل ومغادرة هذه الدنيا الدنية , لأنهُ أحسّ بدنو أجله لميل شمس النهار إلى المغيب. فجمع جميع أولاده وأحفاده من صلبهِ ولفيف أصدقائهِ ومعارفهِ ليودّعهم وداع الفراق , ويوصيهم وصايا الأخيرة. فاحتشد جميعهم تحت ظل فُطرَةٍ ظليل. فأخذ الشيخ الجليل المحتضر يقول: يا أصدقائي ووطنييَّ , إني أشعر بأن لا بدَّ من نهاية هذه الحياة , لأنهُ كان لها بداءَة. ولقد حان أجلي , وقربت ساعة وفاتي , ولست متأسّفاً على زوال أيامي , وتصرُّم حبل حياتي. فلقد أصبح طول عمري عبئاً ثقيلاً على كاهلي , ولم يبقَ لي في هذه الدنيا ما يُطيّب لي فيها مرارة سُؤر رمقي. هذه الفتن والمحن وضروب النكبات أتلفت دياري , وكثرة البلايا والرزايا أمالت قناتي , وتتالي الأمراض والأدواء التي تحلّ بقومنا استفرغت قواي , وتعاقب المصائب والنوائب التي ألمَّت بأهل بيتي استنفد الدماء الباقي من حياتي. كل هذا , إذا ضُمَّ إلى ما رأيتهُ واختبرتهُ بنفسي