فالعثمانيون سبقوا أوروبا إلى تأسيس الجيش النظامي بأكثر من مائة سنة. ونحن نرى مؤرخي أوروبا يعزون شرف تأسيس الجنود النظامية الدائمة إلى شارل السابع مع أن العثمانيين أجدر بأن يعزى إليهم هذا الشرف , ولا ندري كيف نوفق بين ذلك وبين أنصاف هؤلاء المؤلفين. كان عدد الجنود الجديدة قليلاً فاضطرَّ رجال الدولة إلى تجنيد الأسراء ومع ذلك فقد ظلَّ الجيش ناقصاً فأكل عددُه بالتبعة المسلمين. أما الأسراء والأطفال المسيحيون فكانوا يسمون الغلمان الجهلة. وقد اعترض هذا المشروع في بدايته بعض عوارض وذلك أن القسس جعلوا يبثون في النفوس ما أحدث الضغينة بين المسيحيين المتجندين ولكن هذا لم يلبث أن زال أثره بارتقائهم في درجات الوظائف العالية وبالإنصاف الذي كانوا يعاملون بهِ حتى دعي ذلك إلى إقبال الجميع على التجند وأصبحت الحكومة في غنى عن متابعة سيرها في مشروع الدويشرمه وأحدثت في جنديتها صفاً جديداً سمتهُ صف المتطوعين.
سار الانكشاريون بنظام من مبتدأِ أمرهم إلى يوم جلوس السلطان محمد الفاتح للمرة الأولى. ولما عاد السلطان من وقعة وارنه الكبرى وارتقى عرش السلطنة للمرة الثانية أخذ الرعب من خليل باشا مأخذه لأنهُ كان سبب استقالة السلطان من الملك. فأخذ خليل باشا يدس الدسائس في صفوف الانكشاريين , ويحثهم على التمرد والعصيان , فكان ذلك مدعاةً لشرور ومفاسد كثيرة. وأول شيء توسلوا به للمجاهرة بالتمرد والعصيان مطالبتهم السلطان محمد الفاتح بالإحسان بقشيش على أثر وفاة السلطان مراد الثاني وجلوس لسلطان الفاتح وذلك بعد حرب القرمان. حاول السلطان الفاتح والسلطان سليم والسلطان وغيرهم من المصلحين الذين قلما تظفر الأمم في كل زمان بأمثالهم أن يعيدوا روح النظام إلى هذا الجيش الذي ما حارب إلاّ ظفر , ولكن ذهبت عبثاً كل مساعيهم وظلَّ الشر والفساد ممزوجاً بتلك الشجاعة والهمم. وكذا ظلّ الانكشاريون يجنون ثمار النصر في