القيوم الذي نفخ من روحهِ في والد هذه الذرّية المباركة الحاملة لواء خلافته في الأرض نعني النوع الإنساني ألا ترزق البصيرة تجليّاً من تجلياتهِ تضيء بهِ الدنيا كلها لها فلا يبقى إلاّ مسابح نور , ومسارح آمال ورجاء وسرور. لو صحَّ أن الشرّ في هذه الدنيا هو الأغلب , لكان سير هذا النوع الإنساني إلى ما هو أنهُ أقبح وأنقص , لا إلى ما هو أجمل وأكمل , مع أن المشاهد هو أنهُ كان طول دهره
سائراً إلى التكّمل , وآخذاً بالتغلي والتجمّل , فلقد كان الإنسان كهذه الحيوانات السارحة في القفار , أليفَ آجام وحليفَ أوجار , يدور يلتمس لمأكله ورقاً وعشباً , ويردُ الغدران والأنهار فيعبّ منها عبّاً , لا يزرع ولا يصنع , ولا يقني ولا يجمع , لا أداة لديه ولا ماعون , ولا عهد عنده ولا قانون , ثم قفز من بيئتهِ تلك قفزةً إذ ألهمه الفاطر أن يتخذ شيئاً من الأداة , فاصطنع من الحجارة قواطعَ وقواشرَ ونواحت , وفصَّل بهذه الأدوات الحجرية ما شاء أن يفصّل من أعواد الشجر على حسب ما هدته إليه الحاجة. فعمل من الأعواد مِخيَطاً ومسماراً , ومخرزاً ومحفاراً , ومقياساً ومعياراً , وظلَّ كذلك يتدرّج بهذه الصناعات الابتدائية حتى توصَّل إلى الحديد , وهُدِيَ إلى معرفة التصرُّف فيهِ فيومئذٍ دخل في دور جديد فصله عن الأدوار الأولى , ومن بعد ذلك بدأ يأتي بالبدائع والطرَف من الصناعات حتى أصبح بيته وماعونه وآنيته وأكسيته وأثاثه ورياشه وسائر طُرَف زينته أشياء لا نقف عند حدّ! وقد تحسنت عند ذلك سحنتهُ وبنيتهُ ,