آثر الناس عن عبده أنه ولد في طنطا، وكان له أخ أكبر منه فوقع شقاق بين أخيه وأبيه، ففر به أخوه من وجه والدهما هائماً به في الخلوات لا يجدان أحداً يأنسان به ويلجآن إليه، حتى دنا الغروب فسخر الله لهما رجلاً آواهما في ليلتهما ثم أقاما عنده أياماً. ومن غريب الاتفاق أن الرجل كان يشتغل بصناعة الغناء ويضرب الآلة المعروفة بالقانون، فلما سمع صوت عبده أعجبه فعاد به إلى طنطا واشتغل معه فيها مدة وجيزة. وقد بقي تأثير تلك الوحشة والانفراد مع التعب والجوع في تلك الليلة التي خرج فيها عبده من بين أبيه مرسوماً في نفسه فكنت تراه إلى آخر عمره ينقبض صدره، ويتقطب وجهه كلما دخل عليه
أوان الغروب. ولما اشتهر صيته وتفرد في صناعه الغناء ألحقه المرحوم إسماعيل باشا الخديوي الأسبق بمعيته، وسافر معه إلى الأستانة مراراً فاقتبس شيئاً كثيراً من الغناء التركي وأدلخه في الغناء العربي وقد حسنه وتفنن فيه. وغنى وهو في عاصمة الترك السلطان عبد الحميد، واتصل بكبار أهل الدولة يومئذ فأوعزوا مقامه على شده أثرتهم بالعز لأنفسهم. وقصد إلى الأستانة مرة أخرى فلقي فيها ما أقصاه عنها كل حياته.
وآثروا عنه كرم الأخلاق ورقة المعشر والمروءة وسلامة الطوية. حدثنا بعضهم قال: جمع عبده في منزله حلقة من الفضلاء فغناهم حتى الهزيع الثالث من الليل. وأنه لكذلك إذ أقبل عليه خادمه الخاص فأسر إليه أمراً فهب من موضعه معتذراً للقوم بما حضره. ومشى عابس الوجه مقطب الحاجبين. ثم كانت ساعة ورجع إلى مكانه فجس عوده وغنى