قال ابن رشيق: وأكثر ما تجري هذه الممادح والمذامّ على جهة المنافقة، لا على جهة المناصفة، ومن باب المسامحة لا من باب المشاححة، وإلّا فالشيء لا يوافق ضده، فيكون الحسن قبيحا في حالة واحد، والمدح ذمّا لمعنى واحد، لكن لكلّ شيء- كما ذكر الجاحظ- مساوئ ومحاسن؛ كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استشهده الزّبرقان بن بدر على ما ادّعاه من الشرف في قومه، قال عمرو: أجل يا رسول الله، إنه مانع حوّزته، مطاع في أنديته، شديد العارضة. فقال الزبرقان: أما والله لقد علم أكثر مما قال؛ ولكن حسدني شرفي، فقال عمرو: أما وقد قال ما قال، فو الله ما علمته إلا ضيّق الطعن زمر المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى فرأى الكراهة في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا اختلف قوله، فقال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت؛ وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة»(١).
وكتب يزيد بن معاوية في صدر كتابه إلى عبيد الله بن زياد- وقد ولّاه محاربة الحسين بن عليّ رضي الله عنهما- وكان قبل ذلك يسيء الرأي فيه: أمّا بعد، فإن المسبوب يوما ممدوح، وإنّ الممدوح يوما مسبوب.
ويروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يعب شيئا قط، فمرّ يوما بكلب ميّت، فقال أصحابه: ما أنتن ريحه! فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ما أحسن بياض أسنانه! .
وقالت للحضين بن منذر امرأة: كيف سدت وأنت دميم بخيل! فقال: لأني سديد الرأي، شديد الإقدام.
وقال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيل، وأنت جبان! فقال: لأني حليم، وأنا عفيف؛ فسلّم لعائبه ما ادّعاه من مساوئه، وذكر من محاسنه ما لم ينازع فيه.
صعد خالد بن عبد الله القسريّ منبر مكة يوم الجمعة، وهو أمير للوليد بن عبد الملك بن مروان، فأثنى على الحجّاج خيرا، فلما كانت الجمعة الثانية وقد مات الوليد، ورد عليه كتاب سليمان يأمره بشتم الحجّاج وذكر عيوبه، وإظهار البراءة منه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ إبليس كان يظهر من طاعة الله عزّ وجلّ ما كانت الملائكة ترى له به عليهم فضلا، وكان الله قد علم من غشّه ما خفي عن الملائكة، فلما أراد الله فضيحته ابتلاه بالسّجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه منهم، فلعنوه. وإنّ
(١) روي بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب باب ٩٠، والترمذي في الأدب باب ٦٩، وابن ماجة في الأدب باب ٤١، والدارمي في الاستئذان باب ٦٨، وأحمد في المسند ١/ ٢٦٩، ٢٧٣، ٣٠٣، ٣١٣، ٣٢٧، ٣/ ٤٥٦، ٥/ ١٢٥.