إنّما أزرى بقدري أنني ... لست من بابة أهل البلد
ليس منهم غير ذي مقلية ... لذوي الألباب أو ذي حسد
يتحامون لقائي مثل ما ... يتحامون لقاء الأسد
مطلعي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد
لو رأوني وسط بحر لم يكن ... أحد يأخذ منهم بيدي
وقال البحتريّ: [الوافر]
أشرّق أم أغرّب يا سعيد ... وأنقص من زماعي أم أزيد (١)
عدتني عن نصيبين العوادي ... فبختي أبله فيها بليد
وأخلفني الزمان على رجال ... وجوههم وأيديهم حديد
لهم حلل حسن فهنّ بيض ... وأخلاق سمجن فهنّ سود
وممن نبا به بلده القاضي أبو محمد عبد الوهاب، خرج من بغداد يريد مصر، فشيّعه أكابرها، ومن أصحاب محابرها جملة موفورة، فقال لهم: واللهلو وجدت بين أظهركم رغيفين كلّ يوم، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية، والخبز عندهم يومئذ ثلاثمائة رطل بدينار، وقال: [الطويل]
سلام على بغداد منّي تحيّة ... وحقّ لها مني السّلام المضاعف
لعمرك ما فارقتها قاليا لها ... وإني بشطّي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت عليّ برحبها ... ولم تكن الأقدار ممّن يساعف
فكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه ... وتأبى به أخلاقه فيخالف
وقال أيضا: [البسيط]
بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللمفاليس دار الضّنك والضيّق
قد صرت أمشي مهانا في أزقّتها ... كأنني مصحف في كفّ زنديق
قوله: الوهاد والقنن: الانخفاض والارتفاع، والقنة: أعلى الجبل، والوهدة القعدة من الأرض تجري إليها مياه جهاتها. حضنا: جانبا حصينا مانعا. أربأ، أي ارتفع.
يغشاك: يغطيّك. الدّرن: الوسخ المعاهد: منازل سكناء. الحنين: الشوق. السّكن:
الأهل. الأصداف: محالّ الجوهر. يستزرى: يستحقر. يبخس: ينقص، ومعنى هذه الأبيات يقول: أرحل عن بلد يعلو فيه قدر أصاغر الناس قدر أكابرهم، ولا تقم فيه على الهوان، وارفع قدر نفسك من أن تقيم بموضع توسّخك فيه الإهانة، فإنّ المرء حيث يضع
(١) الأبيات في ديوان البحتري ص ٥٨٠.