قال لها: قولي ما شئت أفعله، قالت: تدخل إليها، وتعلمها أنّك مالكها، فتطؤها فتحرم عليه، وإلّا شغلته فجفاني وجفاك. ففعل، وجاء أبو دلامةفسألها عنها، فقالت: هي في ذلك البيت، فدخل ومدّ يده إليها، وذهب ليقبّلها، فرأت شيخا محطّما قبيح الوجه، فقالت: تنحّ وإلّا لطمتك لطمة دققت بها أنفك. فقال: وبهذا أوصتك سيدتك؟ فقالت:
إنها بعثتني إلى فتى من صفته كذا وكذا، وقد نال حاجته مني آنفا. فعلم أنه دهاء من دلامة وأمه، فخرج ولطمه ولبّبه. وحلف ألّا يفارقه إلّا إلى المهديّ، فمضى على تلك الحالة حتى دخل إلى المهديّ، فقال له: ما بالك ويحك! فقال له: عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمله أحد بأبيه، ولا يرضيني إلا أن تقتله، وأخبره الخبر. فضحك المهديّ حتى استلقى، وأبو دلامة يقول: يعجبك فعله، فتضحك منه! فقال: عليّ بالسيف والنّطع، فقال دلامة: اسمع حجتي يا أمير المؤمنين، كما سمعت حجّته، فقال: هات، فقال: هذا الشيخ أصفق الناس وجها، وهو ينيك أمي منذ أربعين سنة فما غضبت، ونكت جاريته مرة واحدة فغضب. فضحك المهديّ أشد من ضحكه الأوّل، فقال: دعها له [يا أبا دلامة]، وأنا أعطيك خيرا منها، فقال: على أن تخبأها بين السماء والأرض، وإلّا ناكها كما ناك هذه، وحلف لدلامة إن عاد ليقتلنّه.
وجاء دلامة لأبيه في محفل، وجلس بين يديه، وقال للجماعة: إنّ شيخي كما ترون قد كبر سنّة، ورقّ جلده ودقّ عظمه، وبنا إلى حياته حاجة، وأنا لا أزال أشير عليه بشيء يمسك رمقه، ويبقي قوّته؛ فيخالفني. وأرغب إليكم أن تسألوه قضاء حاجة فيها صلاح جسمه، فقالوا: حبّا وكرامة، فأخذوا أبا دلامة بألسنتهم، فقال: قولوا له الخبيث فليقل ما يريد، فستعملون أنه لم يأت إلّا ببليّة. فقال: إنما يقتله كثرة النّيك، ولا يدفعه عنه إلا الخصاء، فتعاونوني عليه حتى أخصيه، فضحكوا منه كثيرا، وقالوا لأبيه: قد سمعت فما عندك؟ فقال: قد عرّفتكم أنّه لم يأت بخير، وقد جعلت أمه حكما بيني وبينه، فقوموا إليها، فدخلوا عليها وقصّوا القصّة عليها، فأقبلت على الجماعة وقالت: إن ابني أبقاه الله، قد نصح أباه وبرّه، وأنا إلى بقاء أبيه أحوج منه إليه؛ إلّا أنّ هذا الأمر لم تقع فيه تجربة عندنا، ولا جرت به عادة، وهو قد ادّعى معرفة ذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فإذا عوفي ورأينا ذلك قد أبقي عليه أثرا محمودا، استعمله أبوه على علم، فجعل القوم يضحكون ويعجبون من اتّفاقهم في الخبث.
وأمره المهديّ أن يلزم المسجد في رمضان، وقال له: إن تأخّرت فلشرب الخمر، ولئن علمت ذلك لأقتلنّك، فشق عليه ذلك، وتشفّع إليه بكل إنسان، فلم يشفعه، فأدخل إلى ريطة رقعة، وكان المهديّ لا يخالفها- وفيها:[الوافر]