للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا، طحنهم الثّرى بكلكله، ومزّقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمّرتها الذئاب العاوية كلّا بل هو المعبود، ليس بوالد ولا مولود، ثم أنشأ يقول:

في الذاهبين الأولين ... الأبيات المتقدمة. قال: ثم جلس أبو بكر رضي الله عنه، وقام رجل ذو هامة عظيمة، وقامة جسيمة، فقال: يا سيّد المرسلين، وصفوة ربّ العالمين، لقد رأيت من قسّ عجبا؛ أشرف بي جملي على واد، وشجر من شجر عاد، مورقة مونقة، وقد تهدّل أغصانها. قال: فدنوت منه، فإذا بقسّ في ظل شجرة، بيده قضيب من أراك ينكت به الأرض وهو يترنّم، ويقول: [البسيط]

يا ناعي الموت والملحود في جدث ... عليهم من بقايا خزّهم خرق

دعهم فإنّ لهم يوما يطاح بهم ... فهم إذا انتبهوا من نومهم فرق

حتى يعودوا بحال غير حالهم ... خلفا جديدا كما من قبلها خلقوا

منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها المنهج الخلق

قال: فدنوت منه، وسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، وإذا بعين خرارة، في أرض خوارة، ومسجد بين قبرين، وأسدين عظيمين، يلوذان به، ويتمسّحان بأثوابه، فأراد أحدهما أن يسبق إلى الماء، وتبعه الآخر يطلب الماء، فضربه قسّ بالقضيب، وقال: ارجع ثكلتك أمّك! حتى يشرب الذي ورد قبلك. فرجع ثم ورد بعده، فقلت له: ما هذان القبران؟ قال: هذان قبر أخوين لي كانا يعهدان الله معي في هذا المكان، لا يشركان بالله شيئا، فأدركهما الموت فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما، حتى ألحق بهما. ثم نظر إلى السماء فتغرغرت عيناه بالدموع، وانكبّ عليهما، وجعل يقول: [الطويل]

خليليّ هبّا طالما قد رقدتما ... أجدّ كما لا تقضيان كراكما

ألم تعلما أني بسمعان مفرد ... وما لي فيها من خليل سواكما

مقيم على قبريكما لست بارحا ... طول اللّيالي أو يجيب صداكما

أبكيكما طول الحياة وما الّذي ... يردّ على ذي عولة إن بكاكما

كأنكما والموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما

أمن طول نوم لا تجيبان داعيا ... كأنّ الذي يسقي العقار سقاكما

فلو جعلت نفس لنفس وقاية ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله قسّا، إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده».

***

<<  <  ج: ص:  >  >>