النسب، فصيحا، ذا شيمة حسنة، عمّر سبعمائة سنة، يتقفّر القفار، ولا تكنّه دار، ولا يقرّه قرار، يتحسّى في تقفّره بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوامّ، يلبس المسوح ويتبع السياح على منهاج المسيح، لا يغيّر الرّهبانية، مقرّ بالوحدانية، تضرب بحكمته الأمثال وتكشف به الأهوال، وتتبعه الأبدال، أدرك رأس الحوارييّن سمعان، فهو أول من تألّه من العرب وأعبد من تعبّد في الحقب، وأيقن بالبعث والحساب، وحذّر سوء المنقلب والمآب، ووعظ بذكر الموت، وأمر بالعمل قبل الفوت، الحسن الألفاظ، الخاطب بسوق عكاظ، العارف بشرق وغرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، كأنّي أنظر إليه، والعرب بين يديه، يقسم بالربّ الذي هو له: ليبلغنّ الكتاب أجله، وليوفّينّ كلّ عامل عمله، ثم أنشأ يقول:[الخفيف]
هاج للقلب من هواه ادّكار ... وليال خلالهنّ نهار
ونجوم يحثّها قمر اللّي ... ل وشمس في كلّ يوم تدار
ضوأها يطمس العيون وإرعا ... د شديد في الخافقين مثار
وغلام وأشمط ورضيع ... كلّهم في التراب يوما يزار
وقصور مشيّدة حوت الخي ... ر وأخرى خوت فهنّ قفار
وكثير ممّا تقصر عنه ... حدسة النّاظر الذي لا يحار
والّذي قد ذكرت دل على الله نفوسا لها هدى واعتبار.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ، على جمل له أورق، وهو يتكلّم بكلام مونق، ما أظنّ أحفظه، فهل فيكم يا معشر المهاجرين والأنصار من يحفظ لنا منه شيئا»؟ فوثب أبو بكر قائما، وقال: يا رسول الله، أنا أحفظه وكنت حاضرا بعكاظ حين خطب فأطنب، ورهّب ورغّب، وحذّر وأنذر، وقال في خطبته: أيّها الناس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، وجمع وشتات، وآيات بعد آيات، إنّ في السماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا. ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات رتاج، وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون! أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا! أقسم قسّ بالله قسما حقّا لا آثما فيه ولا حانثا، إنّ لله دينا هو أحبّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيّا قد حان حينه، وأظلّكم أو أنه وأدرككم إبّانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه! ثم قال: تبّا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية! يا معشر إياد، أين الآباء، والأجداد، وأين المريض والعوّاد، وأين الفراعنة الشّداد؟ أين من بنى وشيد، وزخرف ونجّد، وغرّه المال والولد! أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال: أنا ربّكم الأعلى