للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبو عبيدة: كان أبو عمرو أسمر طويلا ضرب اليدين، حادّ النظر، ما رأيت مثله قبله ولا بعده في فهمه ولا علمه، وكان صاحب غريب ونحو وعلم، وهو أحد الأئمة في القراءة، وعنه أخذ يونس والأصمعيّ وأبو عبيدة. وفيه يقول الفرزدق: [البسيط]

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمّار (١)

وقال ابن مجاهد: كان أبو عمرو مقدّما في عصره، عالما بالقراءة ووجوهها، قدوة في العلم باللّغة، إمام الناس في العربية.

وكان مع ذلك متمسكا بالآثار، ولا يكاد يخالف في اختياره ما جاء من الأئمة قبله، متواضعا في علمه.

وقال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلّم النّاس بالقرآن والعربية وأيّام العرب وأنسابها وشعرها، وكانت دفاتره ملء بيت، فلمّا تنسّك أحرقها، وجعل على نفسه أن يختم القرآن في كلّ ثلاث ليال، فلما أسنّ اختلط بالناس، واحتاجوا إليه فعوّل على حفظه، فأملى من حفظه كتب الناس ووقع عليه الإجماع.

روى الأصمعيّ عن أبي عمرو قال: كنت اسمر مع مسلم بن قتيبة الباهليّ وكان يعجبه الرّويّ على السين، فأنشدته ليلة ستين قصيدة على السين لستّين شاعرا، اسمهم عمرو.

الأصمعيّ: كان لأبي عمرو كلّ يوم من غلّة داره فلسان: فلس يشتري به كوزا، وفلس يشتري به ريحانا، يشرب في الكوز يومه، ويشمّ الريحان يومه، فإذا أمسى تصدّق بالكوز، وأمر الجارية أن تجفّف الريحان وتدقّه في الأشنان.

الأصمعيّ: قال أبو عمرو: كنت في ضيعتي، فاشتدّ عليّ الحرّ، فكنت أدور في سدر فيها نصف النهار، فسمعت قائلا يقول: [الطويل]

وإنّ امرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور (٢)

فقلت: إنسيّ أم جنّي؟ فما أجابني، فنقشته في خاتمي، فكان نقش خاتمه.

الأصمعيّ: كنت واقفا بالمربد، وإذا أنا بأبي عمرو، فلما بصر بي مال إليّ، فقال:

ما وقوفك هنا يا أصمعيّ؟ قلت: إني أحبّ المربد وأكثر الجلوس فيه، فقال: الزمه، فإنه


(١) البيت للفرزدق في أدب الكاتب ص ٤٦١، وسر صناعة الإعراب ٢/ ٤٥٦، ٥٢٨، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٢٦١، والكتاب ٣/ ٥٠٦، ٤/ ٦٣، ٦٥، ولسان العرب (غلق)، والبيت ليس في ديوان الفرزدق، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ١/ ١١٨.
(٢) يروى البيت:
وإنّ الذي يمسي ودنياه همّه ... لمستمسك منها بحبل غرور
وهو لهاني بن توبة الشيباني (الشويعر) في لسان العرب (حمد)، (شعر).

<<  <  ج: ص:  >  >>