للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يشدّ النظر ويجلو البصر، ويجمع بين ربيعة ومضر. ثم أردت الانصراف، فقال: إلى أين يا أصمعيّ؟ فقلت: إلى صديق لي، فقال: إمّا لفائدة أو لعائدة أو لمائدة وإلّا فلا. ثم قال لي: مالي أراك بلا عمامة؟ قلت: لا عمامة لي، فنزع عمامته عن رأسه فدفعها إليّ، فكبر ذلك عليّ، فقال لي: إنّ لي بدلها إحدى عشرة عمامة، ثم قال لي: الزم العمامة، فإنّها تشد اللّامة، وتحفظ الهامة، وتزيد في القامة، ثم استخرج من كمّة كيسا فدفعه إليّ ثم قال: يا أصمعيّ، لا زلتم بخير ما دمتم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، فإذا تركتم ذلّك سلّط الله عليكم أقواما غلاظا فظاظا، خبرتكم على قدر معرفتكم.

وأما قراءته وإعرابه المذكوران في المقامة، فإن شجاع بن نصر، قال: قلت لأبي عمرو: كيف طلبت قراءة القرآن؟ قال: لم أزل أطلب أن أقرأه كما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما أنزل عليه، فقلت له: وكيف ذلك؟ قال: هرب أبي من الحجّاج، وأنا شابّ، فقدمنا مكة، فلقيت بها عدّة من التابعين ممّن قرأ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم، فقرأت عليهم القرآن، وأخذت العربية عن العرب الّذين سبقونا باللحن، فهذه التي أخذت بها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشدد يدك بها.

وقال: خرج أبي هاربا من الحجّاج إلى اليمن، فإنّا لنسير في الصحراء باليمن إذ لحقنا لا حق ينشد: [الخفيف]

ربّما تجزع النّفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال (١)

فقال له أبي: ما الخبر؟ فقال: مات الحجاج، فأنا بقوله: «فرجة» بفتح الفاء أشدّ سرورا مني بموت الحجاج، فقال أبي: اصرف ركبانا إلى البصرة.

الفنجديهيّ: رأيت في بعض الفوائد أنّ الحجاج قال لأبي عمرو: ما وجه قراءتك:

إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً [البقرة: ٢٤٩] بفتح الغين؟ فقال: ابلعي ريقي، فقال: قد أبلعتك الفرات. وقال: قاتل الله ابن أم الحجاج، لئن لم تأتني بالجواب إلى خمسة عشر يوما لأقتلنّك شرّ قتلة، ووكّل به موكلين، فخرج أبو عمرو يطوف في أحياء العرب، فلم يجد له حجّة إلى يوم وعده، فجرّه الموكّلون به ليرجعوه إلى الحجاج، فسمع راعيا ينشد:

ربّما تجزع النفوس ... البيت، فقال له أبو عمرو: كيف تنشد هذا البيت: له فرجة أو فرجة، فقال: فرجة وفرجة، وكذلك كلّ ما جاء على فعلة، فلنا فيه ثلاث لغات، فقال له أبو عمرو: فما سبب إنشادك هذا البيت في هذا الوقت؟ فقال: إنّا كنّا خائفين من


(١) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٥٠، وحماسة البحتري ص ٢٢٣، والكتاب ٢/ ١٠٩، ولسان العرب (فرج)، وله أو لحنيف بن عمير أو نهار ابن أخت مسيلمة الكذاب في شرح شواهد المغني ٢/ ٧٠٧، ٧٠٨، والمقاصد النحوية ١/ ٤٨٤، وله أو لأبي قيس صرمة بن أبي أنس أو لحنيف في خزانة الأدب ٦/ ١١٥، ولعبيد بن الأبرص في ديوانه ص ١٢٨، وبلا نسبة في أساس البلاغة (فرج)، والبيان والتبيين ٣/ ٢٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>