للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حدث الأصمعيّ قال: استدعاني الرّشيد في بعض الليالي، وقد تصرّمت قطعة من الليل، فراعتني رسله، ولم أفتأ أن مثلت بين يديه، وإذا في المجلس يحيى بن خالد وجعفر والفضل، فلمّا لحظني الرشيد استدناني، فدنوت منه فتبيّن ما لبسني من الوجل، فقال لي: ليفرخ روعك، فما أردناك إلا لما يراد له مثلك، فمكثت هنيهة إلى أن ثابت إليّ نفسي بعد أن كادت تطير شعاعا، فقال: إني نازعت هؤلاء القوم في أشعر بيت قالته العرب في التّشبيه، ولم يقع إجماعنا على بيت، فأردناك لفصل هذه القضية، واجتناء ثمرة الخطار فيها فقلت: يا أمير المؤمنين، إن التعبين على بيت واحد في نوع واحد- قد وسعت العرب فيه، وجعلته معلما لأفكارها، ومستراحا لخواطرها- لبعيد أن يقع النص عليه، ولكن أحسن الناس تشبيها امرؤ القيس في قوله: [الطويل]

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لذى وكرها العنّاب والخشف البالي (١)

وفي قوله: [الطويل]

كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب (٢)

وفي قوله: [المتقارب]

ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد (٣)

وفي قوله: [الطويل]

سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سموّ حباب الماء حالا على حال (٤)

فالتفت إليّ يحيى، وقال: هذه واحدة، قد نصّ على امرئ القيس أنّه أبدعهم تشبيها. قال يحيى: هي لك يا أمير المؤمنين، ثم قال لي الرشيد: فما أبدع تشبيهاته عندك؟ قلت: قوله يصف فرسا: [المتقارب]

كأن تشوّفه بالضّحى ... تشوّف أزرق ذي مخلب

إذا قرعته حلال له ... تقول سلبت ولم تسلب

فقال: هذا حسن، وأحسن منه قوله: [الطويل]

فرحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوّب فيه العين طورا وترتقي (٥)


(١) البيت في ديوان امرئ القيس ص ٣٨، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٤٤، ولسان العرب (أدب).
(٢) البيت في ديوان امرئ القيس ص ٥٣، ولسان العرب (جزع)، وكتاب العين ١/ ٢١٦.
(٣) البيت في ديوان امرئ القيس ص ١٨٥، ولعمرو بن معديكرب في ملحق ديوانه ص ٢٠٠، ولامرئ القيس أو لعمر بن معديكرب في سمط اللآلي ص ٥٣١.
(٤) البيت في ديوان امرئ القيس ص ٣١، وبلا نسبة في لسان العرب (حبب)، وتهذيب اللغة ٤/ ١٠.
(٥) البيت في ديوان امرئ القيس ص ١٧٦، وأدب الكاتب ص ٥٠٥، ولسان العرب (كوف).

<<  <  ج: ص:  >  >>