عنها بالكره والصّغار، فهل بلغكم أنّ الدنيا أسمحت لهم نفسا، وأغنت عنهم بحيلة، بل أرهقتهم بالحوادث، وضعضعتهم بالنوائب، ودهمتهم بالمصائب، أرأيتم مكرها بمن دان لها وآثرها، وأخلد إليها، يقول الله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود:
١٥]، إلى قوله: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود: ١٦].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: «ألا أريك الدنيا جمعاء بما فيها؟
قال: قلت: بلى، فأخذ بيدي، وأتى واديا من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رءوس الناس وعذرات وخرق، فقال: يا أبا هريرة، هذه الرءوس كانت تحرص حرصكم، وتأمل أملكم، ثم هي اليوم عظام، ثمّ غدا رماد، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها فقذفوها في بطونهم، فأصبحت والنّاس يتحامونها، والريح تصفقها، وهذه عظام دوابّهم التي كانوا بها ينتجعون أطراف البلاد، فمن كان باكيا على الدنيا فليبك» فما برحنا، حتى اشتدّ بكاؤنا.
مرّ أبو عثمان الدّباغ، برجل على كنيف، فقال له: إلى هذا انتهت دنيا القوم ..
وقال الشاعر: [الكامل]
ولقد سألت الدار عن أخبارهم ... فتبسّمت عجبا ولم تبدي
حتى مررت على الكنيف فقال لي ... أموالهم ونوالهم عندي
ويروى أنّ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مرّ بجمجمة فضربها برجله، وقال: تكلّمي بإذن الله، فقالت: يا روح الله، أنا ملك زمن كذا، فبينما أنا جالس في ملكي، عليّ تاجي، وحولي حشمي وجنودي على سريري، إذ بدا لي ملك الموت وظهر، فزال عنيّ كلّ عضو من موضعه، ثم خرجت إليه نفسي.
ولبعض الزّهاد: [الكامل]
دنيا تخادعني كأ ... نّي لست أعرف حالها
مدّت إليّ يمينها ... فقطعتها، وشمالها
منع الإله حرامها ... وأنا اجتنبت حلالها
ورأيتها محتاجة ... فوهبت جملتها لها
ولبعضهم: [الوافر]
هب الدّنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلّا مثل فيء ... أظلّك ثمّ آذن بالزّوال
أبو العتاهية: [البسيط]
يا من ترفّع بالدّنيا وزينتها ... ليس التّرفّع رفع الطّين بالطّين