وأما حكمته فقد ذكر الله تعالى منها في كتابه ما علم، وذكر مالك في موطّئه منها كلاما كثيرا، وذكر منها فصلا في كتاب الجامع من الموطأ.
ومن حكمته: يا بنيّ إنّ الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون، وإنّك قد استدبرت الدنيا منذ كنت، واستقبلت الآخرة، وإن دارا تسير إليها أقرب من دار تخرج منها. يا بنيّ ليس غنى كصحّة، ولا نعيم كطيب نفس. يا بني لا تجالس الفجّار ولا تماشهم؛ اتّق أن ينزل عليهم عذاب من السّماء فيصيبك معهم، وجالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله تعالى يحيي القلوب الميّتة بالعلم، كما يحيي الأرض بوابل المطر.
أبو إسحاق الثعالبي بإسناد له عن عكرمة. قال: كان لقمان من أهون مماليك سيّده عليه، فبعثه مولاه مع عبيد له إلى بستانه يأتونه بشيء من ثمر فجاءوه وما معهم شيء، وقد أكلوا الثمر، وأحالوا على لقمان، فقال لقمان لمولاه: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها، فاسقني، وإياهم ماء حميما ثم أرسلنا لنعدو ففعل فجعلوا يتقيئون تلك الفاكهة ولقمان يتقيّأ ماء، فعرف مولاه صدقه وكذبهم.
قال: وأوّل ما عرف من حكمته أنه كان مع مولاه؛ فدخل مولاه المبرّز فأطال فيه الجلوس، فناداه لقمان: إنّ طول الجلوس مع الحاجة ليوجع منه الكبد، ويورث الباسور، ويصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هوينى، قال: فخرج وكتب حكمته على باب الحش.
قال: وسكر مولاه يوما فخاطر قوما أن يشرب ماء بحيرة، فلمّا أفاق عرف ما وقع فيه، فدعا لقمان فقال له: لمثل هذا كنت اختبأتك، فقال لمولاه: أخرج أباريقك ثم اجمعهم؛ فلما اجتمعوا قال: على أيّ شيء خاطرتموه؟ قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة. قال: فإن لها موادّ فاحبسوا عنها موادّها، قالوا وكيف نستطيع ذلك! قال لقمان:
كيف يستطيع هو أن يشربها ولها موادّ! .
وأراد مولاه بيعه. فقال: يا مولاي إن لي عليك حقا فلا تبعني إلّا ممّن أحبّ، قال: لك ذلك، فكان الرّجل إذا جاء يستامه قال: لأيّ شيء تريدني؟ فقال أحدهم:
تحفظ عليّ بابي. قال: اشترني، فلما جنّه الليل أغلق الباب، وقام يصلّي في الدهليز.
وكان لبنات الرجل أخلّاء فجاءوا فضربوا الباب، فقلن: يا لقمان، افتح الباب، فقال:
بأبي أنتنّ وأميّ! ليس لهذا اشتراني أبوكنّ، فضربنه ضربا كدن أن يأتين منه على نفسه، فلما أصبح لم يخبر أباهنّ، فلما كانت الليلة الثانية عاودنه بمثل ذلك، فلما أصبح لم يخبر أباهنّ، فلما كانت الليلة الثالثة عاودنه بمثل ذلك. فلما أصبح لم يخبر أباهنّ فأقبل بعضهنّ على بعض فقلن: ما جعل الله هذا العبد الأسود أولى بهذا الخير منا، قال:
فنسكن نسكا لم يكن في بني إسرائيل أفضل منهنّ.
عبد الله بن دينار، قال: قدم لقمان من سفر، فاستقبله غلام له في الطريق، فقال له