محمد بن الجهم: وددت أنّ عشرة من الفقهاء، وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء، تواطئوا على ذمي حتى ينتشر ذلك عنهم في الآفاق، فلا يمتدّ إلى أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء لراج.
وكان يقول: من وهب في عمله فهو مخدوع، ومن وهب بعد العزل فهو أحمق، ومن وهب في جوائز سلطانه، أو عمل لم يتعب فيه فهو مخذول، ومن وهب من كسبه وما استفاد بحيلته فهو المطبوع على قلبه، المختوم على سمعه وبصره.
وقال: منع الجميع، أرضى للجميع، وهذا كقول الأصمعي! لو قسمت في الناس ألف ألف لكان أكثر للائمى من لو أخذتها منهم، قالوا: ولم يرد البخل؛ ولكن إذا تعذر عليه أن يعمّ فلا يخصّ.
وقال آخر: قول «لا» يدفع البلاء وقوله «نعم» يزيل النّعم.
دعبل كنّا يوما عند سهل بن هارون وأطلنا الحديث حتى أضرّ به الجوع، فدعا بغدائه، فإذا بصحفة فيها مرق ولحم ديك، قد هرم، لا تحزّ فيه سكين ولا يؤثر فيه ضرس، فأخذ قطعة من خبز فقلع بها جميع المرق، وفقد الرأس فبقي مطرقا ساعة ثم رفع رأسه إلى الغلام وقال: أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: ولم؟ قال: لم أظنك تأكله، قال: ولم ظننت ذلك؟ فو الله إنّي لأمقت من يرمي برجله فضلا عن رأسه، والرأس رئيس الأعضاء وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، وفيه عيناه اللتان يضرب بهما المثل في الصفاء، فيقال: شراب مثل عين الديك، ودماغه عجيب لوجع الكلية، فإن كان بلغ من جهلك أنني لا آكله، فإنّ عندنا من يأكله، انظر أين هو؟ قال: والله لا أدري أين رميت به، قال: لكني والله أدري، رميت به في بطنك.
ولسهل هذا رسالة مدح فيها البخل وفضّله على السخاء، ليرى في ذلك بلاغته، وأهداها إلى الحسن بن سهل في وزارته للمأمون فوقع عليها: لقدمدحت ما ذمّه الله، وحسنت ما قبّح، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا ثوابك عليها قبول ما فضلت فيها، ونتأدّب فيها بأدبك. ولم يعطه شيئا.
وقيل: إنّ الذي أهدي إليه كتاب ألّفه، مدح فيه البخل، وذمّ الجود فوقّع عليه بما تقدم، قال دعبل:[البسيط]
صدّق أليته إن قال مجتهدا ... لا والرغيف فذاك البرّ من قسمه
فإن هممت به فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبني لو أن غيرته ... على جرادقة كانت على حرمه