دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: ١٠٧] أي مدة دوامهما، يريد أن العاقل يحتمل ضرّ الزمان ولا يشتكي والجاهل الّذي متى رجع عن التشكّي لم يرجع رجوعا حسنا، بل يعوي بالتّشكي عواء الذئب.
***
فقال الغلام للنّظارة: يا للعجيبة، والطرفة الغريبة! أنف في السّماء، واست في الماء، ولفظ كالصّهباء، وفعل كالحصباء. ثمّ أقبل على الشّيخ بلسان سليط، وغيظ مستشيط، وقال: أفّ لك من صوّاغ باللّسان، روّاغ عن الإحسان: تأمر بالبرّ، وتعقّ عقوق الهرّ، فإن يكن سبب تعنّتك، نفاق صنعتك، فرماها الله بالكساد، وإفساد الحسّاد؛ حتّى ترى أفرغ من حجّام ساباط، وأضيق رزقا من سم الخياط فقال له الشيخ: بل سلّط الله عليك بثر الفم، وتبيّغ الدّم؛ حتّى تلجأ إلى حجّام عظيم الاشتطاط، ثقيل الاشتراط، كليل المشراط، كثير المخاط والضّراط.
***
قوله: الطّرفة الغريبة، أي التي لم ير مثلها. الصّهباء: الخمر. الحصباء: الحجارة.
سليط، أي متسلط. مستشيط: منتشر في الشرّ ملتهب في الغضب صوّاغ: كذّاب، وصاغ الكذب: صنعه. راغ: مال إليه من حيث لا يعلم، وراغ إلى أهله: رجع في إخفاء.
وحكى الأصمعي في كتاب «أفعل من كذا»، يقال: أعقّ من ضبّ، قال: أرادوا ضبّة، فكثر الكلام بها فقالوا: ضبّ، وعقوقها أنها تأكل أولادها، وذلك أن الضّبّة، إذا باضت حرست بيضتها من كلّ ما قدرت عليه من ورل وحيّة وغير ذلك، فإذا خرجت أولادها من بيضتها ظنتها شيئا يريد بيضها، فوثبت عليه تقتله، فلا ينجو منها إلا الشديد.
قال: وهذا موضوع قد وضعته العرب في موضعه، وأتت بعلّته، ثم جاءت إلى ما هو في العقوق مثل الضّبّة، فضربت به المثل على الضدّ، فقالوا: أبرّ من هرّة، وهي أيضا تأكل أولادها، فحين سئلوا عن الفرق وجّهوا أكل الهرة أولادها إلى شدة الحبّ، فلم يأتوا بحجّة مقنعة. وقال الشاعر:
أما ترى الدّهر وهذا الورى ... كهرّة تأكل أولادها
واختصم إلى شريح، في ولد هرّة، فقال شريح: ألقه مع هذه، فإن هي قرّت ودرّت واسبطرّت، فهو لها، وإن هي هرّت وفرّت واقشعرّت، فليس لها. اسبطرّت:
اضطجعت وهرّت كهرت، من هرير الكلب، واقشعرّ الجلد: قامت شعوره.
قوله: تعنتك: طلب مشقتك، والتّعنّت: طلب الزّلّة، وتعنّته أدخل عليه الأذى إذا