مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتن بين جوانحي وشغافي
يبدو له الدواء الحفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي
وكثرة الكلام وقف على أهل الحجامة، ولذلك صرف الحريريّ بين الشيخ وابنه ما تقدّم في هذه المقامة. وكان الفقيه الأعمش أكثر الناس تبرّما إن أعاد أحد عليه سؤالا انتهره، وأخطأ يوما على قوم، فقالت لهم امرأته من وراء الستر: احملوا عنه فو الله ما يمنعه من الحج منذ ثلاثين سنة إلا مخافة أن يظلم كريّه أو يشتم رفيقه، وكثر عليه الشّعر فقال له تلامذته: لو أخذت من شعرك؟ فقال: لا نجد حجاما يسكت، قالوا له: نأتيك به، ونأخذ عليه أن يسكت حتى يفرغ، قال: افعلوا. فأتي بحجام ووصّي ألا يكلمه، فبدأ بحلقه، فلما أمعن سأله في مسألة فنفض ثيابه، وقام بنصف رأسه محلوقا، حتى دخل بيته، فأخرج الحجّام، وأتي بغيره، فقال: والله لا أخرج إليه حتى توصّوه، وتحلّفوه، فحلف ألّا يسأله في شيء، وحينئذ خرج إليه.
ومقامة الحجام في البديعية، منها قال عيسى بن هشام: فطلبت حجاما فجاءوا برجل نظيف، ظريف لطيف، فارتحت إليه، وسلّمت عليه، فقال لي: السلام عليك، من أيّ بلد أنت؟ فقلت: من مصر، فقال لي: حيّاك الله، من أرض النعمة والرفاهة، وبلد السنة والجماعة، ولقد حضرت في رمضان جامعها، وقد اشتعلت المصابيح، وأقيمت التراويح، فما شعرنا إلا بمدّ النيل، قد أتى على تلك القناديل، ولكن صنع الله لي بخف، كنت لبسته رطبا فلم يحصل طرازه على كمّه، وعاد الصبيّ إلى أمّه، بعد أن صلّيت العتمة، واعتدل الظلّ، ولكن كيف كان حجّك، هل قضيت مناسكه كما وجب، وصاح الصبيان: العجب العجب، فنظرت إلى المنارة، وما أهون الحرب عند النّظّارة ووجدت الهريسة على حالها، فعلمت أنّ الأمر بقضاء من الله وقدر، وإلى متى هذا الضجر، واليوم وغد، والسبت والأحد، ولم أكثر وأطيل، وما أكثر القال والقيل، وإن أردت أن تعلم المبرّد حديد الموسى في النّحو فلا تشتغل بقول العامة، فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لحلقت رأسك، فهل ترى يا سيدي أن ابتدئ؟ .
قال عيسى: فبقيت والله متعجّبا من هذيانه، وسألت عنه فإذا هو أبو الفتح قد غلب السّواد عليه، فتركته وانصرفت فهذه غرارة حجام على الحقيقة.
قال الشيخ الإمام الرئيس أبو محمد القاسم بن علي رضي الله عنه:
قد أودعت هذه المقامة بضعة عشر مثلا من أمثال العرب، وها أنا أفسّر منها ما إخاله يلتبس، على من يقتبس.
أما قوله: بطء فعد، فهو مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكانت بعثته بالمدينة ليقتبس لها نارا، فقصد من فوره مصر، وأقام بها سنة، ثم جاءها بعد السّنة وهو يشتدّ ومعه جمر، فتبدّد منه فقال: تعست العجلة! .