للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمبايعات وغير ذلك من المرافق، وفيها يترك الحجاج بعض أزوادهم إعدادا للإرمال (١) من الزاد عند انصرافهم يتركونها عند معارفهم، بها، فإذا رجعوا أخذوا أزوادهم، ووهبوا لمن أودعوها عندهم شيئا من ذلك.

وهي نصف الطريق من بغداد إلى مكّة أو أقلّ يسيرا، ومنها إلى الكوفة اثنا عشر يوما في طريق سهلة. ودخلها أمير الحاجّ على تعبية وأهبة إرهابا للمجتمعين بها من الأعراب لئلّا يداخلهم الطمع في الحاجّ، لكنّهم لا يجدون إليهم سبيلا والحمد لله.

والمياه كثيرة في آبارها، تمدّها عيون تحت الأرض، وامتلأت أيدي الحجاج القادمين من أغنام العرب بالمبايعة، فلم يبق خيمة ولا ظلالة إلا وإلى جانبها كبش أو كبشان، بحسب الوجد، فعمّ جميع المحلّة الغنم واللبن والسمن والعسل، فأكلوا واحتملوا، وكان ذلك اليوم عيدا للركب.

قال: وبهذه المحلة العراقية، وما انضاف إليها من الخراسانية والموصليّة وسائر جهات الآفاق ينزل من صحبة أمير الحاج جمع لا يحصى عددهم إلا الله تعالى، يغصّ بهم البسيط الأفيح، ويضيق بهم المهمه الضحضح، فترى الأرض تميد بهم ميدا، وتموج بجمعهم موجا، فتصير بهم بحرا طامي العباب، ماؤه السراب، وسفينه الركاب، وشراعه الظّلال المرفوعة والقباب، ويسير سير السحاب، متداخلا بعضها على بعض، فتعاين تزاحما في البراح المنفسح يهول ويروع، واصطكاكا لمبيع التجارات فيه، فبعضها ببعض مقروع؛ فمن لم يشاهد هذا السفر العراقي لم يشاهد عجبا يتحدّثبه، ويتحف السامع بغرائبه، والقرة والقوّة لله وحده وحسبك أنّ النازل في منزل من هذه المحلّة متى خرج لبعض حاجاته، ولم يكن له دلالة على موضعه ضلّ وتلف، وعاد منشودا بجملة الضوالّ، وربما اضطر به الحال إلى الوصول لمضرب الأمير ورفع المسألة إليه، فيأمر أحد المنشدين بما أعدّ لذلك فيردفه خلفه على جمل، ويطوف به المحلّة مناديا باسم جماله وبلده، إلى أن يؤدّيه إلى رفقته.

وعجائب هذه المحلّة كثيرة، ولأهلها من اليسار ما يغنيهم على ما هم بسبيله.

وما ذكرنا أمر هذه المحلة إلا ليستدلّ على أن فيها بلدا في غاية القوّة والعمارة، حيث أمدّ هذا الجمع الكثير والجم الغفير بما تقدم من أنواع الأرزاق، وإن قبائل طيئ متوفرة بحيث تطلع إلى الغارة على مثل هذه المحلّة. والملك لله وحده مفني الجميع بعد كمال العدّة.

قوله: «وردت»، أي أتيت. المدرة: البلد. عبس: قبيلة.

***


(١) الإرمال: أي نفاد الزاد.

<<  <  ج: ص:  >  >>