فقلت له: زدني إيضاحا، عشت ونعشت، فقال: أخبرتني أمّي برّة، وهي كاسمها برّة؛ أنّها نكحت عام الغارة بماوان، رجلا من سراة سروج وغسّان، فلمّا آنس منها الإثقال- وكان باقعة فيما يقال- ظعن عنها سرّا وهلمّ جرّا فما يعرف:
أحيّ هو فيتوقّع، أم أودع اللّحد البلقع.
قال أبو زيد: فعلمت بصحّة العلامات أنّه ولدي، وصدفني عن التّعرّف إليه صفر يدي، ففصلت عنه بكبد مرضوضة، ودموع مفضوضة. فهل سمعتم يا أولي الألباب، بأعجب من هذا العجاب! فقلنا: لا ومن عنده علم الكتاب، فقال:
أثبتوها في عجائب الاتّفاق، وخلّدوها بطون الأوراق، فما سير مثلها في الآفاق فأحضرنا الدّواة وأساودها، ورقشنا الحكاية على ما سردها.
***
إيضاحا: بيانا. نعشت: جبرت. وبرّة الأول اسمها والثاني صفتها، يريد أنها مكرّمة كثيرة البرّ. نكحت: تزوّجت. عام الغارة، أي عام أغار عليهم عدوّهم. ماوان: بلدة.
سراة: سادة. آنس: أبصر والإثقال: الامتلاء بالولد. باقعة: داهية، ويقال: إنه الذي جال بقاع الأرض وعرف خيرها وشرها.
قال ابن الأنباريّ رحمة الله: فلان باقعة، أي داهية حذر محتال حاذق، والباقعة عند العرب: الطائر الحذر المحتال الذي يشرب الماء من المباقع (١)، ولا يرد المشارع والمياه المحصورة خوفا من أن يحتال عليه فيصطاد، ثم شبّه به كل حذر محتال. هلم جرّا، معناه إلى الآن، قال ابن الأنباريّ: هلمّ جرّا، سيروا على هينتكم، أي تثبّتوا على سيركم، ولا تجهدوا أنفسكم ولا تشقّوا عليها، أخذ من الجرّ في السوق، وهو أن تترك الغنم والبقر ترعى في السير، وينتصب «جرّا» في قول الكوفيين على المصدر، لأن في «هلمّ» معنى «جرّ»، وفي قول البصريين: هو مصدر في موضع الحال تقديره «هلم جارّين» أي مستثبتين، قياسا على: جاء عبد الله مشيا، وأقبل ركضا، وجاء وأقبل عند الكوفيين بمعنى مشى وركض وقال بعضهم: ينصب على التمييز. يتوقّع: ينتظر، أودع:
أدخل اللّحد البلقع: اللحد الخالي. صدفني: أمالني. التعرّف: أن يعرّفه أنه أبوه. صفر يدي: فراغها من الدراهم. فصلت: زلت مرضوضة: مدقوقة مكسورة. مفضوضة:
مفترقة. أولي الألباب: أهل العقول. العجاب: مبالغة في العجب.
خلدوها، أي أثبتوها. الآفاق: البلدان وجهات الأرض جميعها. أساودها: