فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع وإن لم يدرك الظالع شأو الضّليع، فذاكرته بما قيل فيمن ألّف بين كلمتين، ونظم بيتا أو بيتين، واستقلت من هذا المقام الذي فيه يحار الفهم، ويفرط الوهم ويسبر غور العقل وتبين قيمة المرء في الفضل، ويضطر صاحبه إلى أن يكون كحاطب ليل أو جالب رجل وخيل، وقلّما سلم مكثار، أو أقيل له عثار.
***
غنم: غنيمة وحكى الفنجديهي في شرحه للمقامات: أن الذي أشار عليه بها هو شرف الدين أنوشروان بن خالد وزير الخليفة، أمره بإنشاء المقامات وحكم عليه بها.
وقيل: أمره به صاحب البصرة وواليها، وقال: سمعت الشيخ الثقة أبا بكر عبد الله بن محمد بن أحمد بن النقور البزار ببغداد يقول؛ سمعت الشيخ الرئيس أبا محمد الحريري يقول: أبو زيد السّروجيّ كان شحاذا بليغا، ومكديا فصيحا، ورد علينا البصرة، فوقف يوما في مسجد بني حرام يتكلم، ويسأل شيئا، وكان بعض الولاة حاضرا، والمسجد غاص بالفضلاء فأعجبهم بفصاحته، وحسن صناعته وملاحته، وذكر أسر الروم ابنته، كما ذكرنا في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون، قال: فاجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من المعارف فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وطرافة إشارته في تسهيل إيراده؛ فحكى كلّ واحد من جلسائي أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وإنه سمع منه معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغير في كل مسجد زيه وشكله، ويظهر في فنون احتياله، فعجبوا من جريانه في ميدانه، وافتنانه في إحسانه؛ قال الحريري؛ فابتدأت في إنشاء المقامة الحرامية تلك الليلة، حاذيا حذوه فلما فرغت منها أقرأتها جماعة من الأعيان، فاستحسنوها غاية الاستحسان، وأنهوا ذلك إلى وزير السلطان، واقترحوا عليّ أخواتها، والله المستعان.
وهذا الذي ذكر الفنجديهي قد حدثني بنحوه من يوثق به من الطلبة، بسند يتصل بأبي محمد الحريري، وإن الحريري وفد مع أهل البصرة بغداد، فوجدوا بواسط أبا زيد السروجي فقال: يا أهل البصرة أنتم تزعمون أنكم لا تكادون ولا تخدعون، وقد والله مشيت على مساجدكم ومحاضركم، فما تعذر عليّ فيها موضع لم أجلب منافع أهله بضروب من المكر، فلما بلغوا بغداد أخبروا بالقصة وزير السلطان، فأمر الحريري بجمع المقامات.
لكن الذي ثبت عندنا هو ما حدثني به الشيخ الفقيه أبو بكر بن أزهر أن الفقيه الراوية أبا القاسم بن جهور، حدثه أن الحريري حدثه أن قصة المقامة الثامنة والأربعين