حق، وأن رجلا قام بمسجد بني حرام فأظهر التوبة من ذنبه، وسأل عن الوجه في كفّارته فقام رجل من بين الناس، فذكر أسر ابنته، فنظم الحريري القصة وجعلها مقامة، وأنها أول مقامة أثبتت في الكتاب وكان ابن جهور يقول: إن الذي أشار إليه بها في قوله: «فأشار من إشارته حكم» هو المستظهر بالله العباسي، وكان لهذا المستظهر رغبة في الطلب، وحظ من الأديب، وعناية بأهل العلم.
وحدث ابن جهور أنه دخل بغداد في أيامه وبها ألف رجل وخمسمائة رجل حامل علم، وكلهم قد أثبت أسماءهم السلطان في الديوان، وأجرى على كلّ واحد من المال بقدر حظّه من العلم، وكان ابن جهور يحدث أن الحريري ألّف المقامات كلها على الرّكاب، وذلك أن المستظهر بالله لما أمره بصنعتها، أخرج كالحافظ على العمال، فكان يخرج في الأبردين يتمشى في ضفتي دجلة والفرات، ويصقل خاطره بنظر الخضرة والمياه فلمينقض فصل العمل إلا وقد اجتمع له مائتا مقامة فخلّص منها خمسين وأتلف البواقي، وصدر الكتاب، ورفعه إلى السلطان فبلغ عنده أسنى المراتب.
قوله: «فذاكرته بما قيل فيمن ألف بين كلمتين ونظم بيتا أو بيتين»، قال عمرو بن العلاء: الإنسان في فسحة من عقله، وفي سلامة من أفواه الناس، ما لم يضع كتابا أو يقل شعرا.
وقال العتابيّ: من صنع كتابا فقد استشرف للمدح والذم، فإن أحسن فقد استهدف للحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرّض للشتم بكل لسان.
غيره: من صنف فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس. وقال حسان: [البسيط]
وإنما الشّعر عقل المرء يعرضه ... على البريّة إن كيسا وإن حمقا (١)
وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
واستقلت: طلبت الإقالة. المقام: موضع القدمين وأنت قائم. يحار: يتحير:
يفرط: يسبق. الوهم: الغلط. يسبر غور العقل، يختبر قدره ومنتهاه، وأصله في الجراحات يختبر غورها، أي بعد قعرها. والمسبار: الحديدة التي يقاس بها مقدار غور الجراحة وسبرها: قاسها به، يفعل ذلك الدبيب للقصاص أو للدواء. ويقال لحديدته:
السّبار والمسبار والمسبر والمكحل والميل والمرود والمجراف.
تبين: تتبيّن، يضطر: يلجأ. حاطب ليل: جامع الحطب بالظلام، وهذا مثل لأكثم ابن صيفي حكيم العرب، ذكره أبو عبيد في الأمثال وقال: إنما شبّهه بخاطب الليل لأنه ربما نهشته الحية أو لسعته العقرب في احتطابه ليلا، فكذلك المهذار ربما أصابه في إكثاره بعض ما يكره، وقال الفرزدق: [الطويل]
(١) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٩٢.