وسأل رجل عائشة رضي الله عنها، فقال: يا أمّ المؤمنين، إن لي داء فهل عندك دواؤه؟ قالت: وما داؤك؟ قال: القسوة، قالت: بئس الدّاء داؤك. عد المرضى، وأشهد الجنائز، وتوقّع الموت.
وقيل لعليّ رضي الله عنه: ما شأنك جاورت المقبرة! قال: إني أجدهم خير جيران صدق، يكفّون الألسنة، ويذكّرون الآخرة.
وكانت عجوز في عبد القيس متعبّدة، فإذا جاء الليل تحزّمت، ثم قامت إلى المحراب، فإذا جاء النهار خرجت إلى المقبرة؛ فعوقبت في إتيان القبور، فقالت: إن القلب القاسي إذا جفا لم يليّنه إلا رسوم البلى، وإنّي لآتي القبور؛ فكأني أنظر وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المتعفّرة، وإلى تلك الأجسام المتغيّرة، وإلى تلك الأكفان الدّسمة.
وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة؛ فلمّا نظر إلى القوم بكى، ثم أقبل عليّ فقال: يا ميمون، هذه قبور آبائي بني أميّة كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذّاتهم وعيشهم؛ أما تراهم صرعى قد خلت من قبلهم المثلات، واستحكم فيهم البلى، وأصابت الهموم في أبدانهم مقيلا، ثم بكى وقال: والله لا أعلم أحدا أنعم ممّن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله.
استنشد المتوكل أبا الحسن عليّ بن محمد بن موسى بن جعفر بن عليّ بن الحسين، فقال: إني لقليل الرّواية في الشعر، فقال: لا بدّ، فأنشده: [البسيط]
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهم ... وأودعوا حفرا، يا بئس ما نزلوا!
ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا: ... أين الأسرّة والتيجان والحلل؟
أين الوجوه التي كانت منعّمة ... من دونها تضرب الأستار والكلل!
فأفصح القبر عنهم حين سيل بهم: ... تلك الوجوه عليها الدّود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
قال عمر: لو أنشد شعرا في أوصاف آبائه وبني عمّه ملوك بني أميّة وانحطاطهم من عزّ المملكة إلى ذل المقبرة، لم يكن إلا هذا الشعر.
أبو الحسن القلويّ كان قد سعي به إلى المتوكل، وقيل له إن في بيته سلاحا وكتبا وغير ذلك، فوجّه إليه بعدّة من الأتراك، فهجموا عليه على غفلة ممّن في داره، فوجدوه
- ١٠٠، والضحايا باب ٣٩، والأشربة باب ٤٠، وابن ماجة في الجنائز باب ٤٧، وأحمد في المسند ١/ ١٤٥، ٤٥٢، ٣/ ٣٨، ٦٣، ٦٦، ٢٣٧، ٢٥٠، ٥/ ٣٥٠، ٣٥٥، ٣٥٧، ٣٥٩، ٣٦١.