للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في بيت مغلق عليه وحده، وعليه مسح شعر، ولا بساط في البيت إلّا الرّمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة صوف متوجها إلى ربه، يترنّم بالقرآن، فمثل بين يدي المتوكل على حاله، والمتوكّل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه عظمه وأجلسه إلى جنبه. وعلم أنه لا يوجد عنده شيء مما قيل، فناوله، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ولا دمعي قطّ فأعفني منه، فأعفاه، ثم قال: أنشدني شعرا أستحسنه، فأنشده الأبيات المتقدّمة، فأشفق من حضر عليه من المتوكل. فو الله لقد بكى المتوكل بكاء طويلا، وبكى من حضر، وقال: يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال: أربعة آلاف درهم، فدفعت إليه، وردّ إلى منزله مكرّما، وقال: ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبد المطلب! قال: وما يقولون يا أمير المؤمنين في رجل افترض الله طاعته على بنيه! فأمر له بمائة ألف درهم، وإنّما أراد طاعة الله على بنيه فعرّض.

وقال سابق البربري في المعاريض: [الطويل]

تعاون على الخيرات تظفر ولا تكن ... على الإثم والعدوان ممّن يعاون (١)

وداهن إذا ما خفت يوما مسلّطا ... عليك، ولا يحتال من لا يداهن

ولا تك ذا لونين يبدي بشاشة ... وفي صدره ضبّ من الغلّ كامن

رجعت إلى عرض المقامة.

عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إلى قبر، وكنت أدنى القوم منه، فبكى وبكينا، فقال: ما يبكيكم؟ قلنا: بكاؤك، قال: هذا قبر أمي آمنة، استأذنت ربي في زيارتها، فأذن لي (٢). فاستأذنته في أن أستغفر لها، فأبى عليّ، فأدركني ما يدرك الولد من الرّقّة.

وكان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبلل لحيته، فسئل عن ذلك، فقيل له:

تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي إذا وقفت على قبر! فقال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنّ القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشدّ» (٣).


(١) يروى صدر البيت الثالث:
ولا تك ذا وجهين يبدي بشاشة
وهو لسابق البربري في أساس البلاغة (ضبب)، وبلا نسبة في تاج العروس (ضبب)، وكتاب العين ٧/ ١٤.
(٢) أخرجه مسلم في الجنائز حديث ١٠٥، ١٠٦، وأبو داود في الجنائز باب ٧٧، والنسائي في الجنائز باب ١٠١، وابن ماجة في الجنائز باب ٤٨، وأحمد في المسند ٢/ ٤٤١، ٥/ ٣٥٦.
(٣) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٥، وابن ماجة في الزهد باب ٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>