والمقصود من زيارة القبور الاعتبار للزائر والانتفاع بدعائه للمزور، ولا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه وللميت.
وكان رجل يشهد الجنائز، فإذا أمسى وقف على المقابر، فقال: آنس الله وحشتكم، ورحم الله غربتكم، وتجاوز الله عن سيئاتكم، وقبل الله حسناتكم؛ لا يزيد على هذا شيئا. قال: فأمسيت ليلة ولم أدع، فبينما أنا نائم إذا خلق كثير قد جاءوني، فقلت: من أنتم؟ قالوا نحن أهل المقابر، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنّك كنت عودتنا هديّة عند انصرافك إلى أهلك، قلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو، قلت:
فإني أعود لذلك؛ فما تركتها بعد ذلك.
قوله: محلّة الأموات، هي المقابر التي يحلّون بها. كفات: قبور وأوعية وكفتّ الشيء: ضممته وقبضته، وكفات الشيء: ما ضمه وستره، وقوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [المرسلات: ٢٥ - ٢٦] قيل: كفات الأحياء بيوتهم، وكفات الأموات قبورهم. والرفات: العظام البالية، وقال ابن المعتز في مقبرة: [الطويل]
وسكّان دار لا تزاور بينهم ... على قرب بعض في التجاور من بعض (١)
كأنّ خواتيما من الطّين فوقهم ... فليس لها حتّى القيامة من فضّ
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [البسيط]
انظر لنفسك يا مسكين في مهل ... ما دام ينفعك التفكير والنّظر
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها ... لله درّك ماذا تستر الحفر!
ففيهم لك يا مغرور موعظة ... وفيهم لك يا مغترّ معتبر!
وقال مالك بن دينار: مررت بالمقابر، فأنشدت أقول: [المتقارب]
أتيت القبور فناديتها ... فأين المعظّم والمحتقر؟
وأين المدلّ بسلطانه ... وأين المزكّي إذا ما افتخر؟
فنوديت من بينهم: لا رأى ... شخوصا لهم ولا من أثر!
تفانوا جميعا فلا مخبر ... وماتوا جميعا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك فيما ترى معتبر!
تروح وتغدو بنات الثّرى ... وتمحى محاسن تلك الصّور!
ومما وجد على قبر مكتوبا: [المتقارب]
تناجيك أجداث وهنّ سكوت ... وسكّانها تحت التّراب خفوت
(١) البيتان في ديوان ابن المعتز ص ٢٥، ٢٦.