قال: لا بدّ لي منه والكلب والحمار شركائي فيه، قال: فما تقول في اللبن، قال: ما رأيته إلا استحييت من أميّ لطول ما أرضعتني إياه، قال: فالسّويق؟ قال: شراب المحرور والعجلان والمسافر، قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش، قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: حومة حاموا بها على الشراب، فلم يصيبوه، قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي، جلت عن المثل، تلك التي تزيد النفس إشراقا، قال: فأنت يا ابن شراعة صديقي، اجلس، أيّ الطعام أحبّ إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم، غير أنّ أنفعه أدسمه وأشهاه أمرؤه، قال: فأيّ المجالس أحبّ إليك أن يكون شربنا فيه؟ قال: ما لم تخف الشمس أن تحرقه، أو السماء أن تغرقه، ولا تشرب إلّا على وجه السّماء، فو الله يا أمير المؤمنين ما نادم الناس أصبح من وجهها، قال: فابرز بنا. فلم ير بعد ذلك يشرب إلا تحت السماء.
كان أبو للسّائب فقيها ورعا ظريفا فسأله بعض المجّان، فقال: يا أبا السائب ما تقول في نبيذ الجرّ؟ قال: اشربه حتى تجرّ قال: فنبيذ الدّنّ، قال: اشربه حتى تجنّ، قال: فالدّاذي؟ (١) قال: أحلى من العسل الماذي، قال: فنبيذ الزبيب والعسل؟ فرفع يديه، وقال: العظمة لله، قال: فما تقول في الخمر؟ قال: لا أشربها قال: ولم؟ قال:
أخاف ألّا أؤدّي شكرها فتنزع مني.
قيل لأبي نواس: صف لنا الأشربة، قال: أمّا الماء فيعظم خطره بقدر تعزّزه، وأمّا السويق فبلغة العجلان، ورويّ الظمآن، وأمّا العسل فنبيل المنظر، سخيف المخبر، وأمّا الخمر فهي شقيقة الرّوح وصديقة النفس ما ارتضعت ممزوجة، وصرفها غير مأمون على نهك البدن وغرس السّقم المؤدّي إلى العطب.
قالت الهند: إنّ الشراب مبارك، يزيد في الدّم بحرارته، ويكسر البلغم بحدته، ويشهي الطعام بلطافته، وأما السكر فمحرّم في كلّ ملّة، وسبيل من سبل الضلالة، واسم من أسماء الوسوسة، قبيح الأفعال، مذموم الأحوال.
وقالت الحكماء: من فضائل الشراب؛ أنّ كل مشروب وإن راق وصفا وحلا وعذب، فأوّله طيّب، ثم يعود في نقصان حتى يعود مكروها إلا الشراب، فإنّك كلّما ازددت منه ازددت فيه رغبة وحبّا، وكان أوسطه إليك أعجب، وآخره أطرب، حتى إذا سرا في العروق برقّته، وعمّ البدن بلطافته، ودبّ في الأعضاء والمفاصل دبيب النمل في نقا الرمل، وخادع عقلك فامتلأت بهجة وسرورا، وعدت ملكا محبورا، تضرب في الخلافة بأوفر سهم، ثم أسلمك إلى النّوم الذي هو حياتك وصحّتك، فاجتذبت النفس ما