شاكلها من لطيفه، وأخذ كلّ عضو قوّته من كثيفه، ثم لا يزال الهواء يخرج بالأنفاس متصعّدا ببخاره، ويجذب ما تحت الدماغ من أستاره، فحينئذ تهبّ بجذل ونشاط، كأنما أنشطت من رباط، وذلك تقدير العزيز العليم.
وقالوا: الشراب مصباح الظّلام، وشفاء الأسقام، وإذا تمشّى في عظامك جعلك خالي الذّرع؛ فسيح الباع، رخىّ البال، قليل الاشتغال، رحب الهمّة، واسع النعمة، فهو أخو الصبوة، وقسيم الشهوة، ولو لم يكن من مننه عليك إلّا أنه إذا مزجته بروحك، وخلطته بدمك، بغّض إليك الحرص ونصبه، والشّره وتعبه، وحبّب إليك المروءة والسماح، وحسّن لك الفكاهة والمزاح.
وقالوا: الشراب يلذّ لك في السفر كلذته في الحضر، ويطيب استعماله في الصحو، كما يطيب في المطر؛ فهو أصل اللّذات الذي عليه تتفرّع، وعنصرها الذي عنه تنبع، وبه تتصل، وإليه ترجع، يردّ الشيوخ في طمع الشبّان، ويدعو الشبّان إلى نشاط النشوان، وقال أبو نواس في ذلك:[السريع]
ما العيش إلا في جنون الصّبا ... فإن تولّى فجنون المدام
راح إذا ما الشيخ والى بها ... خمسا تردّى برداء الغلام
فلله درّ من استنبطه ودلّ عليه، وسقيا لمن بحث عنه واهتدى إليه، ماذا أثار وأيّ شيء أظهر! .
قالوا: ومدار قوامه على اثني عشر شيئا: المواد الثلاث، والقوى الأربع، والحواس الخمس. فالثلاث: هي نسيم الهواء، وعذوبة الماء، ومألوف الأهواء والأربع هي القوة الجاذبة التي تطيّب الطعام وتبرّده، والماسكة التي تمسكه وتجذبه، والهاضمة التي تهديه وتنضجه، والدافعة التي تدفع إلى كلّ عضو سهمه من جوهره، فتخرج عنه ثقله، والحواس الخمس: البصر والسمع والشم والذوق واللّمس. وكلّ شيء من ذلك تدخله الزيادة والنقص فلا يستغني عمّا يقويه في حال ضعفه، ويصفّيه من أوساخه، فلم يجد أهل التجارب الماضون لذلك سببا أبين أثرا، ولا أخفّ محملا، ولا ألطف دبيبا في الأبدان من ماء الكرم، فاستعملوه لذلك استعمالا دائما، فهو ريحانة النفس وترياقها، فيشرب في كل حين، وينفع كل حاسة، وتحيد عنه النوازل والأحزان، وحقّ للنّفس أن تألفه، وللطبيعة أن تلائمه؛ إذ كان حبيبها وشقيق روحها، فتراه يحدث في النفس الشجاعة والتكرّم والأناة والتحلّم.
ومن علامات الكريم إذا أخذ فيه الشراب الاستحياء والتودّد واللهو والسرور والبذل لما في يديه، وكسوة جليسه من أنفس ثيابه، وإذا بلغ المدى في شربها توسّد يساره، ونام حميدا كريما.
ومن علامات اللئيم المماراة والسّفه، وفتل الشارب والتلفّت إلى العربدة وشدة