للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الغضب، وربما بكى وعوى عواء الذئاب، ونبح نباح الكلاب، فشرب الماء يحرم مع مثل هذا، فكيف الشراب! .

ومن فضائله أنه يلائم الطبائع المعتادة في كلّ زمان من فصول السنة، يشربه المحرور ممزوجا فيبرده، والمقرور صرفا فيسخّنه، واليابس معتدلا فيرطّبه، والمرطوب صرفا فيجفّفه، فمن شربه في الصيف فيستحبّ له أن يشربه على خضرة الجنان وتحت الظلال، وعلى المياه وعلى الورد والياسمين والبنفسج والآس والسفرجل والتفاح. وإن كان في الشتاء، فبخلاف ذلك، من الجلوس في الأكنان واستعمال الكوانين، ولبس الأحمر والممشّق (١) وشمّ فتيت المسك والعنبر والمرزنجوش (٢).

وأمّا الربيع والخريف فبين ذلك، لأخذهما من رطوبة الشتاء وحرارة الصيف وإذا اجتمع مع الشراب نغم وألحان على صنوف الملاهي والعيدان، تعاونا على إذهاب الغموم والأحزان، فلله درّ من استنبطه، ماذا أثار وعلى أيّ شيء دلّ! .

ولم لم يكن الشراب أغلب شيء على العقول، وأقربه للقلوب، وألطف محلا في النفوس، وأشدّ ملاءمة للأجسام، وأجمعه لمحمود الخلال حتى لا تقاربه لذة، ولا تساويه شهوة، ولا تعدله خصلة من خصال المسرّات- لما حملت الأشراف وذوي العقول أنفسهم على معاقرته، لا يردّهم ما ينالهم فيه عن معاودته، من شنيع الأقوال ولوم العذّال، فيما أنفقوا عليه من الذخائر، وبذلوا من الأموال.

كان بالبصرة رجل ذو ضياع فأنفق ماله في الشراب، فباع ضيعته، فلمّا تمّ البيع قال له المشتري: تأتيني بالعشيّ، أدفع لك المال، وأشاهدك، فقال: لو كنت ممّن يرى بالعشي ما بعت الضيعة.

قال محمود بن الحسن الكاتب: بعت داري فأصابني مثل هذا، فقلت: [مجزوء الكامل]

أتلفت مالي في العقار ... وخرجت فيها عن وقاري

حتّى إذا كتب الكتا ... ب وجاءني رسل التّجار

قالوا: الشّهادة بالعشيّ ونح ... ن في صدر النّهار

فأجبتهم ردّوا الكتا ... ب ولا تعنّوا بانتظاري

لو كنت أظهر بالعشيّ لم ... اسمحت ببيع داري

وقال ابن الرومي: [الخفيف]

أنا أهوى ذات الخمار على الجي ... ب وذات الوشاح والدّملجين


(١) الممشّق: أي المصبوغ.
(٢) المرزنجوش، وقيل: المردقوش، معرب مردكوش: هو الزعفران.

<<  <  ج: ص:  >  >>