للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: فلمّا أثبت الجواب، واستثبتّ منه الصّواب، قال لي: أهلك واللّيل، فشمّر الذّيل، وبادر السّيل، فقلت: إني بدار غربة، وفي إيوائي أفضل قربة، لا سيّما وقد أغدف جنح الظّلام، وسبّح الرّعد في الغمام، فقال: اغرب عافاك الله إلى حيث شيت، ولا تطمع في أن تبيت، فقلت. ولم ذاك، مع خلوّ ذراك؟

قال: لأنّي أنعمت النّظر، في التقامك ما حضر، حتّى لم تبق ولم تذر، فرأيتك لا تنظر في مصلحتك، ولا تراعي حفظ صحّتك، ومن أمعن فيما أمعنت، وتبطّن ما تبطّنت، لم يكد يخلص من كظّة مدنفة، أو هيضة متلفة، فدعني بالله كفافا، واخرج عنّي ما دمت معافى، فوالذي يحيي ويميت، ما لك عندي مبيت.

فلمّا سمعت أليّته، وبلوت بليّته، خرجت من بيته بالرّغم، وتزوّد الغمّ، تجودني السّماء، وتخبط بي الظّلماء، وتنبحني الكلاب، وتتقاذف بي الأبواب، حتّى ساقني إليك لطف القضاء، فشكرا ليده البيضاء!

***

قوله: «أثبت» صحّح. استثبتّ، أي وجده ثابتا. أهلك والليل، كلام للعرب، كأنه قال: بادر أهلك قبل الليل، وتحقيق المعنى في ذلك أنه عطف الليل على الأهل، وجعلهما مبادرين، ومعنى المبادرة مسابقتك الشيء، كقولك: بادرت زيدا المنزل كأني سابقته إليه، وكأنّ الليل والرجل المخاطبيتسابقان إلى أهل الرجل، فأمره الآمر أن يسابق الليل إليهم، ليكون عندهم قبل الليل. شمّر الذيل، أي ارفع ساقك، واستعدّ للمشي. إيوائي: ضمّي. قربة: ما يتقرّب به من أعمال البرّ. أغدف: أسبل وأرسل، ومنه قول عنترة: [الكامل]

إن تغدفي دوني القناع فإنّني ... طبّ بأخذ الفارس المتلثّم (١)

وإنما قيل للغراب غداف لسبوغ ريشه.

وقال رؤبة يخاطب أخاه: [الرجز]

* نبّت من جناحك الغدافي* (٢)


(١) البيت لعنترة في ديوانه ص ٢٠٥، ولسان العرب (طبب)، (قنع)، (غدف)، (لأم)، وتاج العروس (طيب)، (عذف)، وكتاب العين ٤/ ٣٩٤، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٤/ ٤١٤، وجمهرة اللغة ص ٦٦٩.
(٢) يروى الرجز:
خلقت من جناحك الغدافي ... من القدامى لا من الخوافي
وهو لرؤبة في ديوانه ص ١٠٠، ولسان العرب (غدف)، (قدم)، وتهذيب اللغة ٨/ ٧٦، ٩/ ٤٨، وتاج العروس (غدف)، (قدم)، وبلا نسبة في كتاب العين ٤/ ٣٩٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>