للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لمثّلته لك حتى تراه ... فتعلم إني امرؤ شاكر

وهذا الباب من الشكر وإن وفّيناه حقه هنا يأتي متفرّقا في الكتاب.

***

ولمّا ذكر البطنة وخطرها، وأنها أوجبت عليه خروجه من منزل ضيفه على الحالة التي وصف، أردنا أن نصلها بما يشاكلها.

ومما جاء في ذم البطنة من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يشتري غلاما وضع بين يديه تمرا، فإن أكل كثيرا قال: «ردّوه، فإن كثرة الأكل من الشؤم».

وقيل للتّستري: الرجل يأكل في اليوم مرة؟ قال: أكل الصدّيقين، قيل: فمرتين؟

قال: أكل المؤمنين. قيل: فثلاثا؟ قال: قل لأهلك يبنوا لك معلفا.

ويقبح أن يكون الرجل وصّافا لبطنه وفرجه، وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه.

وقال عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنهما يوم الحكمين: أكثروا الطعام، فو الله ما بطن قوم قط إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزيمة رجل بات بطينا.

وقال بعض الحكماء: لكل شيء صدأ وصدأ القلوب شبع البطون.

عزم المعتصم يوما على الاصطباح، وأمر ندماءه أن يطبخ كلّ واحد منهم قدرا، فدخل عليه غلام ابن أبي داود، فقال المعتصم: الساعة يأتي ابن أبي دواد، فيقول: فلان الهاشمي، وفلان القرشيّ والأنصاريّ، فيقطعنا بحوائجه عما عزمنا عليه، وأنا أشهدكم أني لا أمضي له يومي هذا حاجة، فلم يتم الكلام إلا والحاجب يستأذن به، فقال لجلسائه: كيف ترون؟ فقالوا: لا تأذن له، فقال: سوأة لكم! الحمّى سنة أهون عليّ من ذلك، ودخل فما هو إلا أن سلّم وجلس وتكلم حتى ضحك المعتصم، وسفر وجهه إليه، ثم قال: يا أبا عبد الله، لقد طبخ كل واحد من هؤلاء قدرا، وقد جعلناك حكما في طبخها، قال: فليحضر كل واحد قدره وآكل، ثم أحكم فيها. فوضعت بين يديه، فأكل من أول قدر أكلا كثيرا، فقال المعتصم: هذا ظلم، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأني أراك أمعنت في هذا اللون، وستحكم لصاحبه، فقال: عليّ أن آكل من القدور كلّها مثله، قال: شأنك، فأكل ثم قال: أمّا هذه فقد أجاد طباخها، إذ قلّل خلّها وكثّر زيتها، ثم أكل من كل قدر كذلك، ووصف القدور كلّها بصفات حسنة سرّ بها أصحابها، ثم قدّم الطعام، فأكل مع القوم كما أكلوا، أنظف أكل وأحسنه، وهو يحدّثهم بأخبار الأكلة في صدر الإسلام، كمعاوية وعبد الله بن زياد، والحجاج وسليمان بن عبد الملك. وعن أكلة دهره مثل ميسرة التمّار، ودورق القصّاب، وحاتم الكيّال، وإسحاق الحمّامي.

<<  <  ج: ص:  >  >>