فلما رفعت الموائد قال له المعتصم، وقد أطربه حديثه: ألك حاجة يا أبا عبد الله؟
قال: رجل من أهل بيتك، وطئه الدهر، وغيّر حاله، قال: ومن هو؟ قال: سليمان بن عبد الله، قال: قدّر له ما يصلحه، قال: خمسون ألفا، قال: قد أنفذت ذلك له، قال:
ولي حاجة أخرى، ثم ذكر ثلاث عشرة حاجة لا يردّه عن شيء منها، ثم قام خطيبا، فقال: عمّرك الله يا أمير المؤمنين طويلا فبعمرك تخصب جنّات رعيتك، ويلين عيشهم، وتنمو أموالهم، ولا زلت ممتّعا بالكرامة والسلامة، مدفوعا عنك حوادث الأيّام وغيرها، ثم انصرف. فقال المعتصم: هذا والله يتزين الملك بمثله، ويبتهج بقربه، أما رأيتم كيف دخل، وكيف تكلم، وكيف أكل، ثم انبسط في الكلام، وكيف طاب به أكلنا، ما يردّ هذا عن حاجته إلّا لئيم الأصل، والله لو سألني في مجلسي هذا ما قيمته عشرة آلاف ما رددته عنها، وأنا أعلم أنه يكسبني في الدنيا حمدا، وفي الآخرة ثوابا.
وفيه يقول أبو تمام:[الوافر]
لقد أنست مساوئ كلّ دهر ... محاسن أحمد بن أبي دواد (١)
وهذه الحكاية تنتظم في حكايات أهل الزّرد المتقدمين في المقامة، وقد احتوت على رجال موصوفين بذلك، ختمنا بها الباب.
***
فقلت له: أحبب بلقائك المتاح، إلى قلبي المرتاح، ثمّ أخذ يفتن في حكاياته، ويشمط مضحكاته بمبكياته، إلى أن عطس أنف الصبّاح، وهتف داعي الفلاح، فتأهّب لإجابة الدّاعي، ثمّ عطف إلى وداعي، فعقته عن الانبعاث، وقلت: الضّيافة ثلاث، فناشد وحرّج، ثمّ أمّ المخرج، وأنشد إذ عرّج:[الخفيف]
لا تزر من تحبّ في كل شهر ... غير يوم ولا تزده عليه
فاجتلاء الهلال في الشّهر يوم ... ثمّ لا تنظر العيون إليه
قال الحارث بن همّام: فودّعته بقلب دامي القرح، ووددت لو أنّ ليلتي بطيئة الصّبح.
***
قوله:«أحبب»، تعجّب معناه: ما أحبّ لقاءك إلى قلبي. المتاح: المقدّر، والمرتاح: المهتزّ طربا. يفتن: ينوّع. ويشمط: يخلط. أنفه: أوله، وجعل للصباح أنفا عاطسا مجازا لمّا كان يدفع ظلمة الليل. هتف: صاح. داعي الفلاح، هو المؤذّن.