للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الراكب، يسير في جنان من أولها إلى آخرها، لا تواجهه الشمس، ولا يفارقه الظلّ، مع تدفّق الماء، وصفاء الهواء، واتّساع الفضاء، فمكثوا ما شاء الله، لا يعاندهم ملك إلا قصموه.

وكانت في بدء الزمان تركبها السيول، فجمع ملك حمير أهل مملكته، فشاورهم في دفع السّيل، فأجمعوا على حفر مسارب له حتى تؤدّيه إلى البحر، فحشد أهل مملكته حتى صرف الماء، واتّخذ سدّا في موضع جريان الماء من الجبال، ورصفه بالحجارة والحديد، وجعل فيه مجاري للماء في استدارة الذراع، يخترقون منها مقدارا معلوما من الماء وشربا مقسوما للأرض، فإذا جاء السيل تصرف في المجاري إلى جنانهم ومزدرعاتهم، بتقدير يعمّهم نفعه.

وقيل: صنعة لقمان بن عاد، وجعله فرسخا في فرسخ؛ وذكر الأعشى في شعره أن حميرا ابتنته، فقال: [المتقارب]

رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء ماؤهم لم يرم (١)

وأروى الزّروع وأعنابهم ... على سعة ماؤهم قد قسم

فعاشوا بذلك في غبطة ... فجاف بهم جارف منهدم

فلما كفروا بأنعم الله، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، بعث الله على سدّهم فأرة فخرقته. وأرسل عليهم السّيل، وأباد الله خضراءهم.

ولما انتهى الملك في ولد سبأ إلى عمرو بن عامر مزيقياء- وسمّي بذلك لأنه كان يمزّق في كل ليلة حلّة كبرا من أن تعاد عليه أو يلبسها غيره. وقيل: سمّي بذلك لأنه مزّق الأزد في البلاد- وكان أخوه عمران كاهنا، فأتته كاهنة تدعى طريفة فأخبرته بدنوّ فساد السدّ وفيض السيل، وأنذرته، فقال لها: وما آية ذلك؟ فقالت: إذا رأيت جرذا يكثر بيديه الحفر، ويقلّب برجليه الصخر؛ فاعلم أنه قد اقترب الأمر. فقال: وما الأمر؟ فقالت:

وعد من الله ينزل يا عمرو، فلتكثر الشكر.

فرأى عمرو يوما في السد جرذا يقلب صخرة، ما يقلبها خمسون رجلا، فرجع وهو يقول: [الرجز]

أبصرت أمرا هاج لي برح السّقم ... من جرذ كفحل خنزير أجم

له مخاليب وأنياب قضم


(١) الأبيات في ديوان الأعشى ص ٤٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>