للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قدّمنا ذكره، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، وأحدّثك حدثا عجيبا في التّطفيل عن نفسي، قال: قل، فقلت؛ خرجت يوما فمررت في سكك بغداد، فشممت رائحة أبزار من جناح دار، وقدور قد فاح قتارها. فسألت خياطا: عن ربّ الدار، فقال رجل من التّجار اسمه فلان. فخرجت من شبّاك في الجناح كفّ ومعصم، ما رأيت مثلهما قطّ، فذهب عقلي وبهتّ، وإذا رجلان نبيلان، فقال الخياط: هذان نديماه، وهما فلان وفلان، فحرّكت دابتي، ودخلت بينهما، وقلت: قد استبطأكما أبو فلان، فأتينا الباب، فدخلنا، فلم يشكّ صاحب الدار أنني منهما، فرحّب بي، وأجلسني في أجّل موضع، فأتينا بالألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: أكلت الألوان وبقي الكفّ. ثم سرنا إلى مجالس المنادمة، فإذا أنبل مجلس، وصاحب الدار مقبل باللّطف والحديث عليّ لمّا ظن أني منهما، فخرجت جارية تنثنّي كأنها خوط بان، فسلّمت وجلست، وأخذت بالعود وجسته، فتبيّنت الحذق في جسّتها، وغنّت هذا الصوت:

[الطويل]

توهّمها طرفي فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر

وصافحها كفي فآلم كفّها ... فمن لمس كفي في أناملها عقر

ومرّ بفكري شخصها فجرحته ... ولم أر شخصا قطّ يجرحه الفكر

فهيّجت بلابلي، وطربت، ثم غنّت: [الطويل]

أشرت إليها هل علمت مودتي ... فردت بطرف العين إنّي على العهد.

فحدث عن الإظهار عمدا لسرّها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد

فصحت: السلاح! وجاءني ما لم أملك معه نفسي، ثم غنّت: [الطويل]

أليس عجيبا أنّ بيتا يضمّني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلّم

سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وترجيع أحشاء على النار تضرم

إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وقلب متيّم

فحسدتها على حذقها، فقلت: يا جارية بقي عليك شيء، فغضبت ورمت بالعود، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء! فندمت ورأيت تغيّر القوم، فدعوت بالعود وغنّيت: [الكامل]

ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم بعد المدى فبلينا

راحوا العشيّة روحة مذكورة ... إن متن متنا أو بقين بقينا

فأقبلت على رجليّ تقبلهما، وتقول: المعذرة والله يا سيّدي من تغيير مثلك، وقام مولاها وصاحباه، وصنعوا مثلها، وشربوا بالطاسات طربا، ثم غنّيت: [الطويل]

<<  <  ج: ص:  >  >>