للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم أمر بإحضارهما فأحضرتا، فرأيت جاريتين ما رأيت مثلهما قطّ، فقلت لإحداهما: ما عندك من العلم؟ فقالت: ما أمر الله في كتابه، ثم ما ينظر النّاس فيه من الأخبار والأشعار. فسألتها عن حروف من القرآن، فأجابتني كأنها تقرأ القرآن من كتاب، ثم سألتها عن الأخبار والأشعار والنّحو والعروض، فما قصّرت في جوابي في كلّ فنّ أخذت فيه، فقلت لها: فأنشدينا شيئا، فأنشدت: [الطويل]

يا غياث العباد في كلّ محل ... ما يريد العباد إلّا رضاكا

لا ومن شرّف الإمام وأعلى ... ما أطاع الإله عبد عصاكا

فقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت امرأة في مسك رجل مثلها.

وخبرت الأخرى، فوجدتها دونها، فأمر أن تصنع تلك الجارية لتحمل إليه في تلك الليلة ثم قال: يا عبد الملك، أنا ضجر، وأحبّ أن تسمعني حديثا مما شهدت من أعاجيب الزمان أتفرّج به، فقلت: يا أمير المؤمنين، كان لي صاحب في بدو بني فلان، وكنت أغشاه، وأتحدث إليه، وقد أتت عليه ست وتسعون سنة، وهو أصحّ النفوس ذهنا وأقواهم بدنا، فغبت عنه، ثم أتيته فوجدته ناحل البدن، كاسف البال، فسألته: ما سبب تغيّره؟ فقال: فصدت بعض القرابة، فألفيت عندهم جارية؛ قد طلت بالورس بدنها، وفي عنقها طبل تنشد عليه: [الوافر]

محاسنها سهام للمنايا ... مريّشة بأنواع الخطوب

ترى ريب المنون بهنّ سهما ... يصيب بنصله مهج القلوب

فقلت: [الطويل]

ففي شفتي في موضع الطّبل ترتعي ... كما قد أبحت الطبل في جيدك الحسن

هبيني عودا يابسا تحت شقّة ... يمتّع فيما بين نحرك والذّقن

فلمّا سمعت الشعر، رمت بالطبل في وجهي، ودخلت الخيمة، فوقفت حتى حميت الشمس على مفرق رأسي، فلم تخرج، فانصرفت قريح القلب، فهذا التّغيّر من عشقي لها.

فضحك الرشيد حتى استلقى، ثم قال: ويلك يا عبد الملك! ابن ست وتسعين يعشق! فقلت له: قد كان هذا، فقال: يا عباس، أعط عبد الملك مائة ألف درهم، وردّه إلى مدينة السلام.

فانصرفت، ثم أتاني الخادم، فقال: أنا رسول بنتك- يعني الجارية- تقول لك: إنّ أمير المؤمنين أمر لها بمال وهذا نصيبك، فدفع لي ألف دينار، فلم تزل تواصلني بالبرّ الواصل، حتى كانت فتنة محمد، وانقطع خبرها عنّي، وأمر لي الفضل بعشرة آلاف درهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>