وحدّث علي بن الجهم، قال: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل، أهدى إليه الناس على أقدارهم، فأهدى إليه ابن طاهر جارية أديبة، تسمّى محبوبة، تقول الشعر، وتلحّنه، وتحسن من كلّ علم أحسنه، فحلّت من قلب المتوكل محلّا جليلا، فدخلت يوما للمنادمة، فخرج وهو يضحك. فقال: يا عليّ، دخلت فرأيت محبوبة قد كتبت على خدّها بالمسك «جعفر»، فما رأيت أحسن منه، فقل فيه شيئا، فسبقتني محبوبة، فقالت وأخذت عودها، وغنّت: [الطويل]
وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا ... بنفسي مخطّ المسك من حيث أثّرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدّها ... لقد أودعت قلبي من الوجد أسطرا
فيا من مناها في السّريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
ويا من لمملوك يظل مليكه ... مطيعا له فيما أسرّ وأجهرا
ويا من لعيني من رأى مثل جعفر ... سقى الله صوب المسكرات لجعفرا!
قال: فتقلّبت خواطري، حتى كأنّى ما أحسن حرفا من الشّعر، فقلت للمتوكل:
أقلني، فقد والله عزب ذهني عني، فلم يزل يعيّرني به.
ثم دخلت عليه بعد ذلك للمنادمة، فقال: يا عليّ، أعلمت أني غاضبت محبوبة، وأمرتها بلزوم مقصورتها، ومنعت أهل القصر من كلامها؟ فقلت: يا سيّدي، إن غاضبتها اليوم، فصالحها غدا، فدخلت عليه من الغد، فقال: ويحك يا عليّ! رأيت البارحة في النّوم كأنّي صالحت محبوبة، فقالت جاريته: شاطر، يا سيدي، لقد سمعت الآن في مقصورتها هينمة، فقال: قم حتى ننظر ما هي، فقام حافيا، حتى قربنا من مقصورتها، فإذا هي تغنّي، وتقول: [المنسرح]
أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمني
كأنني قد أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصني
فمن شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني
حتى إذا ما الصباح عاد لنا ... عاد إلى هجره فصارمني
فصفّق المتوكل طربا، فلمّا سمعته خرجت تقبّل رجليه، وتمرّغ خدّها في التراب، حتّى أخذ بيدها راضيا عنها.
حدث أبو عليّ بن الأسكريّ المصريّ- وأسكر هي القرية التي ولد بها موسى عليه السلام- قال: كنت من جلّاس تميم بن أبي تميم، وممن يخفّ عليه، فأتي من بغداد بجارية رائعة فائقة الغناء، فدعا جلاسه، ومدّت الستارة، فأمرها فغنّت: [الكامل]
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألّق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرّداء ودونه ... صعب الذّرى متمنّع أركانه