وبدا لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصدّه أشجانه
فالنّار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
قال: فأحسنت ما شاءت، وطرب تميم ومن حضر، ثم غنّت:
سيسليك عمّا فات دولة مفضل ... أوائله محمودة وأواخره
ثني الله عطفيه، وألّف شخصه ... على البرّ مذ شدّت عليه مآزره
فطرب تميم ومن حضر طربا شديدا، ثم غنّت: [البسيط]
أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
فأفرط تميم في الطرب جدّا. ثم قال لها: تمنّي ما شئت، فلك مناك، فقالت:
أتمنّى عافية الأمير وسعادته، فقال: لا بدّ والله، فقالت: على الوفاء أتمنّى أيها الأمير، فقال: نعم فقالت: أتمنّى أن أغنّي هذه النوبة ببغداد. فتغيّر وجه تميم، وتكدّر المجلس، وقمنا. فلحقني بعض خدمه، فردّني. فلمّا وقفت بين يديه، قال لي: ويحك! أرأيت ما امتحنّا به، ولا بدّ من الوفاء: وما أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنّت هناك، فاصرفها، فقلت: سمعا وطاعة، فأصحبها جارية سوداء تخدمها وتعاد لها، وأمر لي بناقة وبجمل عليه هودج، فأدخلت فيه، وسرنا مع القافلة إلى مكة، فقضينا حجّنا.
ثم لما وردنا القادسية، أتتني السّوداء، فقالت لي: تقول لك سيدتي: أين نحن؟
فقلت: نحن نزول بالقادسيّة، فأخبرتها، فسمعت صوتها قد ارتفع بالغناء: [مجزوء الكامل]
لمّا نزلنا القادسيّ ... ة حيث مجتمع الرّفاق
وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمن أح ... بّ بجمع شمل واتّفاق
وضحكت من فرح اللّقا ... ء كما بكيت من الفراق
فصاح الناس من أقطار الغافلة: أعيدي أعيدي، بالله! فما سمع لها كلمة.
فلما نزلنا الياسريّة على خمسة أميال من بغداد في بساتين متّصلة يبيت الناس بها، ثم يبكّرون ببغداد. فلمّا قرب الصباح إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، وو الله لا أدري أين هي؟ فطلبتها فلم أجدها، ولا وجدت لها ببغداد خبرا، فقضيت حوائجي ببغداد وانصرفت إلى تميم، فأخبرته خبرها، فلم يزل واجما عليها.
وأخبار القيان كثيرة فلنقتصر على هذا القدر.
***