يعرف أبا غيره، فزوّجه ابنته، فوقع بينه وبين بكريّ كلام، فقال له البكريّ: ما أنت بمنته حتى ألحقك بأبيك. فأمسك عنه، ودخل إلى أمه فسألها فأخبرته، فلما أوى إلى فراشه، وضع أنفه بين ثدي زوجته، وتنفّس تنفيسة تنفّط ما بين ثدييها من حرارتها، فقامت الجارية فزعة، فدخلت إلى أبيها فأعلمته، فقال: ثائر وربّ الكعبة.
فلما أصبح أرسل وراء الهجرس، فأتاه فقال له: إنما أنت ولدي ومعي، وقد كانت الحرب في أبيك زمانا طويلا حتى كدنا نتفانى، وقد اصطلحنا الآن، فانطلق معي حتى نأخذ عليك ما أخذ علينا، قال: نعم، ولكن مثلي لا يأتي قومه إلا بسلاحه، فأتيا جمعا من قومهما، فقصّ عليهم جسّاس ما كانوا فيه من البلاء، وما صاروا إليه من العافية، ثم قال: وهذا ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه، فلما قدّموا للعقد أخذ بوسط رمحه، وقال: وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ناظر إليه. ثم طعن جساسا فقتله، ولحق بقومه وكان آخر قتيل فيهم.
وقد قيل في صورة قتل كليب غير ما ذكرنا، وحكايات الجاهلية كثيرة الاضطراب، وقد نسب شعر القنبرة لطرفة.
وقال النابغة الجعديّ وذكر قتل كليب وحذّر به عقالا العقيلي: [الطويل]
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأبصر حزما منك ضرّج بالدّم (١)
رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهّم
فقال لجساس: أغثني بشربة ... تدارك بها منّا عليّ وأنعم
فقال: تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسّم
الترسّم: اتباع الماء في قعر البئر، يقول: أيّ افتخار في حياة تعرض عليّ فيها الامتحانات، ثم بعد هذه المشقات تردّني إلى الكبر والشيخوخة؛ فلم أبال، أدنا الموت أم تأخّر، إذ المآل إلى الهرم القائد إلى الموت. وأشار بهذا إلى قول النمر بن تولب:
[الطويل]
يودّ الفتى طول السلامة جاهدا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل!
وإلى قول حميد بن ثور: [الطويل]
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما
وجاء: كفي بالسلامة داء.
وجاء في أجر البلايا قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس ما له خطيئة».
(١) الأبيات في ديوان النابغة الجعدي ص ١٤٣.