طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل ونحّى البساط برجله، وجلس دونه، فقال لي عمارة:
لا تزال بصرتكم ترمينا بأحمق، فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع، وهو يقول: أين أبو عثمان عمرو بن عبيد؟ فو الله ما دلّ على نفسه حتى أرشد إليه. فأتكأه يده، ثم قال: أجب أمير المؤمنين جعلني الله فداءك! فمرّ متوكئا عليه، فقلت لعمارة الذي استحمقه: قد دعي وتركنا، فقال: كثيرا ما يكون مثل هذا، فأطال اللّبث، ثم خرج الربيع، وعمرو متوكئ عليه، وهو يقول: يا غلام، حمار أبي عثمان. فما برح حتى أقرّه على سرجه وضمّ إليه ثوبه، واستودعه الله عز وجل. فأقبل عمارة على الربيع، فقال: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل فعلا لو فعلتموه بوليّ عهدكم لكنتم قد قضيتم حقه. قال: فما غاب والله عنك مما فعله أمير المؤمنين أكثر وأعجب.
قال: فإن اتّسع لك الحديث فحدّثنا، فقال: ما هو إلا أن سمع أمير المؤمنين بمكانه، فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودا، ثم انتقل هو والمهديّ إليه، وعلى المهديّ سواده وسيفه، ثم أذن له. فلما دخل عليه سلّم بالخلافة، فرد عليه، وما زال يدنيه حتى أتكأه فخذه وتحفى، ثم سأله عن نفسه وعن عياله؛ يسمّيهم رجلا رجلا وامرأة امرأة، ثم قال: يا أبا عثمان عظني، فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم* بسم الله الرحمن الرحيم وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ إلى قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤] يا أبا جعفر، فبكى المنصور رحمه الله تعالى بكاء شديدا، وكأنه لم يسمع تلك الآية الشريفة إلا تلك الساعة، فقال: زدني، قال إن الله سبحانه وتعالى أعطاك الدّنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها، وإن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد من كان قبلك ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وإني أحذّرك ليلة تتمخّض صبيحتها عن يوم القيامة. قال: فبكى والله أشدّ من بكائه الأوّل حتى رجف جنباه، فقال له سليمان بن مالك: رفقا بأمير المؤمنين لقد أتعبته في هذا اليوم، فقال له عمرو: بمثلك ضاع الأمر وانتشر، لا أبا لك! وماذا خفت على أمير المؤمنين إن بكى من خشية الله تعالى. قال: فأنت والله الصادق البرّ، قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على سفرك وزمانك، فقال:
لا حاجة لي بها، قال: والله لتأخذنّها، قال: والله لا آخذها، فقال له المهديّ: يحلف أمير المؤمنين وتحلف! فأقبل على المنصور فقال: من هذا الفتى؟ فقال: هذا ابني محمد، وهو وليّ عهد المؤمنين، فقال: والله لقد سمّيته اسما ما استحقّه عمله، وألبسته لبوسا ما هو من لبوس الأبرار، ولقد ملّكته أمرا، أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه. ثم التفت إلى المهديّ وقال: يا ابن أخي، إذا حلف أبوك حلف عمك، لأن أباك أقدر على الكفّارة من عمك. ثم قال: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قال: نعم، قال: ما هي؟ قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، قال: إذا لا نلتقي. قال: عن حاجتي سألتني، ثم استحفظه الله عز وجل وودّعه، وانصرف.
فلما ولّي أتبعه المنصور بصره وهو يقول:[مجزوء الرمل]