تقول؟ قال: نعم، وإنما علقه منّي وسبق به إليك، وزاد فيه. ثم اندفع فأنشد أكثر القصيدة، حتى شكّكني- علم الله- في نفسي، وبقيت متحيّرا، فقال لي أبو سعيد: يا فتى، قد كان لك في قرابتك منّي ما يغنيك عن هذا! فجعلت أحلف بكل محرّجة من الإيمان أن الشعر لي، ما سمعته منه، ولا انتحلته. فلم ينفع ذلك شيئا، وأطرق أبو سعيد، وقطع بي حتى تمنّيت أن يساخ بي في الأرض، فقمت منكسف البال، أجرّ رجليّ، فما بلغت باب الدار حتى ردّني الغلام، فأقبل عليّ الرجل وقال: الشعر لك يا بنيّ، والله ما قلته قطّ، ولا سمعته إلا منك؛ ولكنني كنت ظننت أنّك تهاونت بموضعي، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي، تريد مضاهاتي، حتى عرّفني الأمير نسبك، ولوددت ألّا تلد طائيّة إلا مثلك، ودعاني وضمّني إليه، وعانقني، وأبو سعيد يضحك، فلزمته بعد ذلك وأخذت عنه، واحتذيت فنه.
وعن أبي الغوث عن أبيه قال: قال لي أبو تمام: بلغني أن بني حميد أعطوك مالا جليلا، فبم مدحتهم؟ فأنشدني شيئا منه، فأنشدته، فقال لي: كم أعطوك؟ فقلت: كذا، فقال لي: ظلموك، والله ما وفّوك حقّك، فلم استكثرت ما أعطوك! والله لبيت منها خير مما أخذت. ثم أطرق قليلا وقال: لعمري لقد استكثرت ذلك لمّا مات الكرام، وذهب الناس، وغاضت المكارم، وكسدت أسواق الأدب، أنت والله يا بنيّ أمير الشعراء غدا بعدي، فقمت فقبّلت رأسه ويديه ورجليه، وقلت: والله لهذا القول أسر لي مما وصل إليّ منهم.
قال البحتريّ: أنشدت أبا تمام يوما شيئا من شعري، فأنشدني بيت أوس:[الطويل]
وإن مقرم منّا ذرا حدّ نابه ... تمخّط فينا ناب آخر مقرم (١)
ثم قال: يا بنيّ، نعيت إليّ نفسي: فقلت: أعيذك بالله من هذا! فقال لي: إن عمري ليس يطول، وقد نشأ مثلك لطيئ، أما علمت أن خالد بن صفوان المنقريّ رأى شبيب بن شبّة، وهو من رهطه يتكلم، فقال. يا بنيّ، نعى نفسي إليّ إحسانك في كلامك؛ لأنّا أهل بيت، ما نشأ فينا قطّ خطيب إلا مات من قبله.
قال: فمات أبو تمام بعد سنة من قوله هذا، ومات البحتري سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
المبرّد: ذكرت للمتوكل المنازعة الّتي جرت بيني وبين أبي الفتح في تأويلات، فبعث إلى عامله بالبصرة أن يحملني إليه مكرها، فوردت سرّ من رأى، فأدخلت على
(١) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص ١٢٢، ولسان العرب (قرم)، (ذرا)، وتهذيب اللغة ٧/ ٢٦١، ٩/ ١٤٠، وتاج العروس (خمط)، (قرم)، وأساس البلاغة (خمط)، (قرم)، وبلا نسبة في لسان العرب (خمط)، ومقاييس اللغة ٢/ ٣٥٢، ٥/ ٧٥، والمخصص ١٠/ ٢٠٠، ١٥/ ٥٥.